إشكالية الشرعية في الأنظمة السياسية العربية

عرض/ إبراهيم غرايبة
يتناول الكتاب أزمة التعارض بين السلطة والمواطن وبين المجتمع المدني والمجتمع السياسي في الوطن العربي، ومفهوم الشرعية ومصادرها. ويدرس التجربة الجزائرية، وإشكالية الصراع فيها، ومستقبل الشرعية في الأنظمة السياسية العربية.

مفهوم الشرعية ومصادرها
الشرعية هي التعبير عن حالة الرضا والقبول التي يبديها المواطنون إزاء النظام السياسي وممارسة السلطة، وتمثل قاعدة قانونية للسلطة، تفترض وحدة فعلية بين السلطة والمجتمع، وممارسة فعلية للأهداف المشتركة بينهما، وترتبط بالسيادة، والمساواة، والشعور بالوطنية، والعدالة الاجتماعية، فهي صفة للسلطة القائمة على إجماع عام.

وقد عرف الفكر السياسي والممارسة السياسية أكثر من مصدر للشرعية، وهذا التنوع والاختلاف في مصادر الشرعية دليل على إمكانية انتقال السلطة وتحولها وفق تحول مصادر شرعيتها، وتحول أيديولوجية النظام السياسي الذي تقوم عليه السلطة.


undefined-اسم الكتاب: إشكالية الشرعية في الأنظمة السياسية العربية
–المؤلف: خميس حزام والي
-عدد الصفحات: 306
-الطبعة:
الأولى 2003
الناشر: بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية

وقد تضعف شرعية السلطة أو تنتهي لأسباب كثيرة، دستورية أو مؤسساتية، أو للتغير في المجتمعات والشعوب، أو عجزها عن إدارة شؤون الدولة والشعب، أو انحسار مكانتها وهيبتها لضعفها أو أخطائها، أو عدم تمثيلها لقيم ومصالح المجتمع.

لقد أصبحت مشكلة الشرعية السياسية هي مشكلة الحكم المركزية في الوطن العربي المعاصر، وغيابها وضعفها يفسران الطبيعة المتقلبة للسياسات العربية، والطابع التسلطي والقهري لأغلب السلطات العربية الراهنة، فانعدام الاستقرار والفاعلية والفساد والقمع هي عناصر مقلقة في السياسة العربية اليوم، وما ذلك إلا نتيجة لضآلة الشرعية للحكام والبنى السياسية والأيديولوجية السائدة.


حال الوضع الدستوري للدول العربية هو غلبة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية، وبهذا فإن سلطة الشعب في حالة اختلال كبير لصالح النظام السياسي

الأنظمة السياسية العربية والشرعية
نشأت الأنظمة السياسية العربية مستندة إلى موقف تمثيل الهوية العربية الإسلامية والطموحات المتصلة بها، وهي تبدو في حالة تناقض مع الحقائق السياسية للواقع العربي، وهي في الواقع لا تستند إلى المصادر التقليدية التي حددها ماكس فيبر لشرعية السلطة، وهي: التقاليد، والكاريزما، والعقلانية، والكفاءة، ولكنها جميعا تزعم امتلاك هذه المصادر.

وفي الوضع الدستوري للدول العربية فإن الحال هو غلبة السلطة التنفيذية (الحكومة) على السلطتين التشريعية والقضائية، وبهذا فإن سلطة الشعب في حالة اختلال كبير لصالح النظام السياسي.

وفي دراسة شرعية الأنظمة السياسية العربية يعرض المؤلف شرعية البنى السياسية لهذه الأنظمة، وطبيعة السلطة العربية، ومصادر الشرعية لديها، فيجد أن البنى السياسية العربية بإجماع الباحثين قائمة على كيانات مصطنعة من كيان اجتماعي متطور هو الأمة العربية، ولكن يجري تجاهلها كليا، وهذه الدول كما يصفها المفكر العربي عبد الله العروي هي "حديثة النشأة، لا عقلانية، واهنة، عنيفة، مرتكزة على عصبيات وعلاقات قرابة وعشائرية، وعلى بينة عتيقة للشخصية".

وتتصارع في الدول العربية وتتنافس مستويات من الولاء للدولة، والأمة العربية، والأمة الإسلامية، والمجموعات المحلية القومية والدينية، ولكن الدول العربية تبدو مستقرة ظاهريا على الأقل، فقد حققت الأنظمة السياسية العربية وضعا مناسبا لاستمرارها، ربما بسبب قدرتها على استبعاد النخب التقليدية، وتآكل نفوذها مع نمو رأس المال الجديد، وانهيار اليسار وتلاشيه.

ولكن هذا الاستقرار لا يؤشر على حكم صالح وشرعية، فالاستقرار لا يعني الشرعية، فالمجتمع العربي في الواقع يشهد صراعا عنيفا، والأنظمة تعمل في الحقيقة وفق إدارة الأزمات، وإن كانت النتيجة النهائية لهذه الأزمات تبدو لصالح استمرار وبقاء الأنظمة السياسية القائمة.

وكان النجاح الحقيقي للأنظمة السياسية هو إخفاء الغليان وتأجيل الانفجار، بتحكمها بوسائل الإعلام الداخلية، ورقابتها الصارمة على إمكانيات الإعلام الخارجي في رصد الأحداث، والتفوق الهائل المتراكم في عمل أجهزة المخابرات العسكرية والأمنية والسياسية، وتحديثها المستمر بالتقنية والتدريب والإغداق الأدبي والمالي.

وتضافرت ظروف وأسباب أخرى غير موضوعية أدت إلى استقرار الأنظمة السياسية العربية منها تحسن أسعار النفط بعد عام 1973 والتطور الاقتصادي والتنموي بفعل ذلك في معظم الدول العربية حتى غير النفطية منها، والتقارب بين أغلب الدول العربية والولايات المتحدة، ومركزية السلطة السياسية العربية، وتركيز السلطات بيد رئيس الدولة، والدور المتضخم للجهاز الإداري في الاقتصاد والتعليم والتنمية، فاكتسبت الدولة بذلك قوة إضافية مكنتها من ضبط المواقع الإستراتيجية الحساسة سياسيا وأمنيا وإحباط أي مبادرة سياسية.

وأدى هذا الواقع السياسي المستقر إلى استبعاد التناوب الديمقراطي للسلطة السياسية، بل أصبح مستحيلا في ظل سيطرة فرد واحد على السلطة والموارد والثقافة والإعلام والتوجيه.

وكانت طبيعة السلطة في الدول العربية نتيجة للبيئة التي سبق وصفها تتصف أساسا بالقطيعة بين الدولة والمجتمع، وانعدام الثقة بين الحكام والمحكومين، وتنامي العنف الشعبي، وأصبح العنف هو اللغة الوحيدة في التعامل بين الأطراف.


الوضع المتأزم سيزيد من تفاقمه عدم قدرة النظام على القيام بعمليات إصلاح جذرية في المستقبل تستفيد منها الأغلبية الجزائرية مما سيزيد العنف بدلا من التخفيف منه إن لم يكن إيقافه نهائيا

الجزائر وإشكالية الصراع والشرعية
تعتبر الجزائر مثالا قائما وحيا على الصراع والشرعية في الأنظمة السياسية العربية، ولذلك فإن دراسة هذه الحالة تفيد كثيرا في التفكير للدول العربية ومستقبلها، فيبدو اليوم بعد سنوات طويلة من الصراع أنه يصعب على طرف من الأطراف أن يحسم المعركة لصالحه، ومازالت الجماعات المسلحة المعارضة تمارس العنف، والدولة ترد بعنف أيضا، وخرج الأمر عن نطاق السيطرة، وبخاصة بعد تجذر الاحتكام إلى العنف والقوة المسلحة، وصارت حياة المواطن الجزائري مهددة على يد الجماعات المسلحة أو على يد قوات الأمن.

وهذا الوضع المتأزم سيزيد من تفاقمه عدم قدرة النظام على القيام بعمليات إصلاح جذرية في المستقبل تستفيد منها الأغلبية الجزائرية، مما سيزيد العنف بدلا من التخفيف منه إن لم يكن إيقافه نهائيا.

ويبدو أن المستقبل لا يسير في صالح الجبهة الإسلامية للإنقاذ، فلم يسعفها التشدد ورفض الحوار في التأثير في الوضع وتغييره لصالحها، وتعرضت لانقسامات كبيرة، وأضعفها الصراع، وتعرضت لاختراقات مهمة من قبل النظام السياسي جعلها غير قادرة على صياغة مستقبلها بنفسها.

إن أزمة الشرعية في الجزائر برغم الانتخابات الرئاسية والنيابية المتتالية والتعددية السياسية والحزبية القائمة فيها تقع تطبيقيا في عدم مشاركة الجبهة الإسلامية للإنقاذ في العملية السياسية، والتحول في الصراع مع الجبهة من السياسي إلى الأمني دون إدراك أن الديمقراطية أو البحث عن الشرعية هما أن يترك للشعب الحرية ليقول رأيه ويحدد اختياره فيمن يرى أنه القادر على تحقيق مصالحه.


قامت السلطات والأنظمة السياسية العربية على أساس تعسفي، وهي تمارس العنف في السياسة والاجتماع، وهي تفتقد الشرعية التاريخية، وشرعية الإنجاز، ولا يبرر وجودها سوى تأمين مصالح أصحاب السلطة وشركائها المنتفعين بها

مستقبل الشرعية في الأنظمة السياسية العربية
ثمة فرضيات ثلاث منطقية لمستقبل الأنظمة السياسية العربية، هي: استقرار الوضع الراهن القائم، وحقبة الاضطراب، وحقبة الشرعية.

– يدعم الفرضية الأولى (استقرار الوضع الراهن) التوجه منذ السبعينيات نحو الاستقرار السياسي، وسيطرة الحكام، ونمو الدول وقدراتها على التحكم، ونشوء معارضة مدجنة، ورسوخ الأنظمة الأمنية والعسكرية وقوتها وكفاءتها العالية.

– ويدعم الفرضية الثانية (حقبة الاضطراب) أن الدول لن تكون أقوى من عوامل الضعف والانهيار الناتجة عن ضعف الشرعية، فغياب الغطاء الشرعي سيفقدها السلطة الأخلاقية، وسيؤدي ذلك إلى فشل الدولة في اكتساب الشرعية في نظر المجتمع، وتبدو مظاهر الاضطراب واحتمالاته في أنماط الحكم والإدارة القائمة، مثل: الاعتماد المتزايد والرئيس على الأمن والمخابرات لتحقيق الأمن والاستقرار، وبيروقراطية السلطة، وخلق شعبية جماهيرية بالتعبئة الأيديولوجية وتوظيف الإسلام السياسي، والحرس الإمبراطوري الهائل، والفوضى الشاملة كما حدث في لبنان والجزائر، (ويحدث اليوم في العراق).

– تتنبأ الفرضية الثالثة (حقبة الشرعية) بتغيرات سياسية جوهرية، وتطوير أنظمة سياسية أكثر شرعية، وذلك كمخرج من الأزمة القائمة بين السلطة والمجتمع.

ويتوصل المؤلف إلى أن الأساس في حل إشكالية الشرعية في الأنظمة السياسية العربية هو في النظر إلى المستقبل، وإجراء تغيير عميق في الثقافة السياسية العربية، فالشرعية لا تطال فقط الأنظمة السياسية وإنما أيضا المجموعات السياسية.

وهذا التغيير في الثقافة العربية السائدة يراه المؤلف طريقا للعبور التدريجي إلى المشاركة السياسية والعامة، فالديمقراطية ليست أزمة لدى الحكومات والأنظمة السياسية، ولكنها أيضا أزمة المجتمع المدني والثقافة السائدة.

ويجب أن تركز هذه الثقافة على منظومة فكرية تتخلص من الثقافة السلطوية التي حولت السياسة فعلا إلى مجرد استبدال رئاسة بأخرى، وفئة متسلطة بأخرى.

لقد قامت السلطات والأنظمة السياسية العربية على أساس تعسفي، وهي تمارس العنف في السياسة والاجتماع، وهي تفتقد الشرعية التاريخية، وشرعية الإنجاز، ولا يبرر وجودها سوى تأمين مصالح أصحاب السلطة وشركائها المنتفعين بها، وكانت محاولات إصلاح الأنظمة السياسية العربية بشرعية قائمة على الانقلابات العسكرية والثورات مزيدا من السقوط في الاستبداد والتخلف السياسي والتنموي، ومن ثم فإن التفكير في العنف لتغيير الوضع القائم هو تفكير يجب استبعاده للخروج بدرس مفيد من حقبة الانقلابات والثورات وويلاتها التي جرتها على الوطن العربي، وهذا ما ظهر بالفعل في الجزائر، فقد عجزت جميع الفئات المتصارعة عن حسم الموقف، وانتهى الحال إلى كارثة تعصف بالأوطان والناس والموارد والمستقبل والتاريخ.

ولذلك فإن المؤلف يرجح الأسلوب الديمقراطي السلمي في العمل والتغيير، ويجد أن مفتاح النهوض هو في الإصلاح السياسي الذي يحقق الاستقرار، ويهيئ الأمة بكل إمكانياتها، ويشرك الشعب بكل أفراده وفئاته.

وبداية الفساد في الوطن العربي كانت في نظمه السياسية التي تستبد بالرأي متجاهلة الاتجاه العالمي المتزايد والراسخ نحو الديمقراطية والقانون الذي تضعه الشعوب من خلال برلماناتها المنتخبة، وتمكين المواطنين جميعهم من المشاركة في صياغة مصيرهم وشؤون حياتهم.

والأنظمة السياسية العربية القائمة تعاني من أزمة شرعية تهددها، فقد عجزت عن مواكبة العصر وتطوراته، وأغلقت الطرق أمام الإصلاح، وأنكرت على الشعوب حقها في إدارة وحكم نفسها، ولم يصل الإصلاح الذي أمكن تحقيقه إلى مستوى تشكيل سلطات منتخبة تتنافس سلميا وتتداول فيما بينها الحكم والسلطة، والانتخابات التي تجري، والأحزاب التي يسمح بتشكيلها في بعض الدول العربية لا تمس جوهر السلطة.

وتتجاهل محاولات الإصلاح السياسي القائمة ومعظمها أو جميعها ليبرالية ظروف وواقع المجتمعات العربية المعاصرة وتراثها الحضاري والثقافي وبنيتها الاجتماعية، وهي بذلك تقلد المحاولات الغربية الديمقراطية وتنقل مؤسساتها إلى بيئة مختلفة في ظروفها وفي بنيانها الاجتماعي.

والحل برأي المؤلف الموصل إلى تحقيق الشرعية السياسية العربية قائم على المبادئ التالية:

– الحل السياسي الديمقراطي بدلا من الحل العسكري – الأمني.
– تحييد المؤسسة العسكرية.
– التأكيد على البعد العربي الإسلامي في حركة النظام السياسي.
– الاعتراف بحق القوى الاجتماعية والسياسية المختلفة والمتعددة في المشاركة في السلطة.
– تعزيز حقوق الإنسان.
– الاعتراف بحقوق الأقليات والقوميات في التعبير عن ذاتها.
– إطلاق الحريات العامة.
– العمل والتنسيق العربي المشترك في التشريع وتنظيم الحياة السياسية والعامة.

المصدر : الجزيرة