حارة اليهود بالقاهرة.. حياة على قيد الموت

دار المناسبات اليهودية تحول إلى جزء من مقهى
دار المناسبات اليهودية في حارة اليهود تحولت إلى جزء من مقهى (الجزيرة)

دعاء عبد اللطيف – القاهرة

بحذر أغلقوا الباب، خطواتهم متوجسة، يتداخل إيقاعها مع أنفاسهم المضطربة، وحقائبهم خفيفة بخفة الملابس، وثقيلة بملء الذكريات.

هبطوا الطابق الثاني فالأول، ومنه إلى الزقاق الملتوي بين ثنايا الحارة.. كل همهم ألا يستيقظ أحد الجيران فيكشف فعلهم، فهم راغبون في رحيل صامت.

وكالعادة تستيقظ الحارة صباحا، لتلوك خبر اختفاء أسرة يهودية أخرى، فيتحسر جيران على طول العِشرة، ويهرول آخرون لشراء ممتلكاتها من مسؤولي الطائفة اليهودية بمصر.

هكذا، قبل ما يزيد عن ستين عاما، كانت الأسر اليهودية ترحل سرا من حارة اليهود -التي تمركزت بها غالبية أبناء الطائفة اليهودية بمصر خلال النصف الأول من القرن العشرين- ليسافروا بحراً إلى وطنهم الجديد إسرائيل.

وبعد عقود من هجرة الوطن، لم تعد حارة اليهود على حالها، وكأنها خُبئت بحقائب المهاجرين، ولم يبق منها سوى اسم وبنايات تتآكل بفعل القدم والنسيان.

المنتجات البلاستيكية تسيطر على أزقة حارة اليهود (الجزيرة)
المنتجات البلاستيكية تسيطر على أزقة حارة اليهود (الجزيرة)

أزقة بلاستيكية
أزقة حارة اليهود التي تبلغ 350 زقاقا، متشابكة، فكل منها يفضي إلى الآخر وجميعها تفضي إلى اللاشيء، وتحاصر الأزقة بنايات متآكلة أغلبها يعود لملاك يهود، وأحدثها بناءً بُني في سبعينيات القرن الماضي.

ويحتل الأزقة آلاف المشترين والباعة الذين يعرضون منتجات أغلبها صنع من مادة البلاستيك – لعب أطفال وأدوات منزلية- مما يشتت الزائر عن الغوص في قدم بنايات الحارة.

وعلى طرف أحد الأزقة، يجلس بجلبابه الفضفاض، يفرز المارين به، فتجارته كاسدة كما يصف وسط مئات محلات بيع "البلاستيك".

ويتاجر الحاج شعبان الذي أنهى عامه السبعين قبل أيام، في خردة الحديد، وهي سلعة شاريها شحيح، كما يؤكد.

ورغم أن الرجل السبعيني لم يكن أتم العشرية عندما عايش وجود اليهود بالحارة، فإن ذاكرته تؤكد جمال وهدوء حارة اليهود قبل ستين عاما.

ويقول بابتسامة تُبرز صفي أسنانه الصناعية "كان اليهود يرحلون إلى إسرائيل سرا أواخر أربعينيات القرن الماضي، فكنا نصحوا على خبر رحيل أحد الجيران، لكن النزوح بدا في شكل هجرة علنية مع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956".

ويتذكر شعبان أن عدد المسلمين كان ضئيلا جدا بالحارة، واقتصر عملهم بها على الأشغال الخدمية فكان منهم البقال والسباك.

وباع أغلب اليهود أصولهم إلى مسلمي الحارة، ويستزيد العجوز السبعيني "لم يكن لدى المسلمين الذين يعملون في أشغال خدمية أثمان الأصول، لذا اكتفى اليهود بتقاضي ما يملك العامل من مال على أن يتم سداد باقي المبلغ على أقساط يرسلها المالك الجديد إلى البائع".

ويردف مبتسما "لا أظن أن المشترين أرسلوا المبالغ المستحقة عليهم"، مشيرا إلى أن مسؤولي الطائفة اليهودية تكفلوا ببيع ما بقي من ممتلكات.

ثم يشير بيد مرتعشة إلى مبنى قديم تعلوه لافتة تُبين أنه مدرسة ابتدائية، ويقول "هذا المبنى ملك ليهودي وقد انتقلت ملكيته إلى وزارة التربية والتعليم". وعما إذا كان يعيش حتى الآن يهود بالحارة، يؤكد شعبان أنها خالية من أي يهودي.

وفي تصريح لها الشهر الماضي، أكدت رئيسة الطائفة اليهودية بمصر ماجدة هارون أن عدد اليهود بمصر سبعة فقط، كلهم سيدات ويقطن في دور لرعاية المسنين.

وعمل مئات الآلاف من يهود مصر، في النصف الأول من القرن العشرين، بقطاعات محددة وأهمها صناعات النسيج والحديد فضلا عن أنهم أسسوا دور السينما والبنوك ومحلات الذهب.

مراسلة مجلة الجزيرة أمام دار المناسبات اليهودية (الجزيرة)
مراسلة مجلة الجزيرة أمام دار المناسبات اليهودية (الجزيرة)

كأن لم يكن
يولون وجههم عنه، فمنهم من دخل في نقاش تجاري على إيقاع ارتشاف الشاي، ومنهم من انشغل بتدخين النرجيلة التي تختلط رائحتها بعطب المبنى الأثري.

وأغلبهم لا يدرك طبيعة الأثر الذي يلصقون مقاعدهم بجداره، فقد استغل صاحب المقهى المقابل لدار المناسبات اليهودية أحد جدران المبنى لوضع مقاعد مقهاه، في حين اختار آخرون الجدار لركن دراجاتهم البخارية.

ودون الجالسين بالمقهى، يبدو وحده العارف بقيمة الأثر الذي يلاصقه، فالحاج سيد ولد بالحارة وبقي فيها طيلة أعوامه السبعة والسبعين.

ينظر العجوز إلى المبنى الذي يتكون من طابقين تشقهما نوافذ حديدية صدئة، ليتذكر المرات التي دخل فيها دار المناسبات اليهودية مع أقرانه اليهود لحضور زيجات الجيران. "قديما كان المبنى يشع بهجة وليس وحشة كما اليوم"، وفق وصف الحاج سيد.

يصمت قليلا، لينقل بصره من عروق الشيخوخة التي تخط كفيه إلى العروق الخشبية المتآكلة بجدران مبنى المناسبات، ثم يقطع صمته بالتعجب من إهمال الدولة آثار الحارة التي يمكن أن تكون مزارا سياحيا.

ويوضح العجوز أنه اشترى منزله من مسؤولي الطائفة اليهودية، وتابع "فاتورتا الكهرباء والمياه تُحصلان حتى اليوم باسم إليهوي شالوم وهو الشخص الذي أوكل للطائفة بيع منزله".

ولكن غيره لم يتبع طرقا رسمية للشراء فاستولى على بيوت يهودية بطريقة وضع اليد، كما يؤكد.

الإهمال والفقر يسيطران على حارة اليهود (الجزيرة)
الإهمال والفقر يسيطران على حارة اليهود (الجزيرة)

تكايا الأودش
قبل أمتار من الأودش -مبنى يتكون من طابقين به حجرات متعددة وبناه أغنياء اليهود ليسكنه فقراؤهم- حذرني بعض الباعة من دخوله.

والتحذيرات مبعثها أن ساكني الأودش خارجون عن القانون، فهم يسيطرون عليه رغم ملكيته من قبل الدولة، لذا يضرهم ترويج حياتهم إعلامياً.

وصدق تحذير الباعة، فعند الوصول لمدخل المبنى استوقفني عدد من ساكني الأودش، رافضين دخولي أو الحديث معي.

وعلى بعد أمتار من المبنى المحظور على الغرباء، يجلس سمير محمود (35 عاما) في متجر البقالة الذي يمتلكه، ويبدأ -حديثه لمجلة الجزيرة- بوصف الأودش قائلا "مبنى يتكون من غرف صغيرة، طول الواحدة لا يتعدى الثلاثة أمتار وعرضها في حدود مترين، ولكل منها حمام خاص".

وينقل محمود ما سمعه من والده، موضحا أن الطعام والشراب كان يوزع على نزلاء الأودش يوميا، لذا أطلق المسلمون عليه اسم "التكية".

معبد موسى بن ميمون المعبد الوحيد المحافظ على حالته من بين معابد الجارة (الجزيرة)
معبد موسى بن ميمون المعبد الوحيد المحافظ على حالته من بين معابد الجارة (الجزيرة)

أساطير بن ميمون
الثانية ظهرا، الحر شديد بدرجة هدوء أزقة الحارة، فالرجال على كراسي المقاهي يسترقون السمع لما يمليه مذيع الراديو من أخبار عبور خط برليف، والنساء في البيوت ينتظرن أي نبأ عن الحرب.

وبينما الجميع منشغل، انهار جزء من معبد موسى بن ميمون كعلامة على انتصار المصريين على اليهود في حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973، هكذا تقول الأسطورة التي يرددها أبناء الحارة حتى اليوم.

والأساطير التي يرددها أهل الحارة بشأن بن ميمون كثيرة، ومنها أنه كان الطبيب الخاص للقائد صلاح الدين الأيوبي محرر القدس من الصليبيين، وتذهب الأسطورة إلى اعتناقه الإسلام قبل وفاته.

وموسى بن ميمون هو المعبد الوحيد المحافظ على نضارته من بين المعابد المتبقية بالحارة، نتيجة ترميمه قبل ستة أعوام من قبل وزارة الآثار، وكذلك ينفرد بالتصاقه بمسجد الرحمن.

وكانت الحارة تحوي بين طياتها 13 معبدا للطائفة اليهودية، لكن لم يتبق منها إلا ثلاثة وهم "موسى بن ميمون" و"بار يوحاي"و" أبو حاييم كابوسي"، وباقي المعابد هدمت أو استحوذ عليها السكان الجدد.

المصدر : الجزيرة