"كماين الطوب".. مأثرة النيل في الخرطوم
ويعود تاريخ هذه الصناعة بشكلها التقليدي المعمول به اليوم، إلى الحقبة التي كانت فيها البلاد جزءا من الدولة العثمانية ما بين 1821-1885، حيث بقيت منتعشة بعد ذلك كواحدة من أهم موارد طوب البناء في هذا البلد.
ورغم أن هذه الورشات منتشرة في مختلف أنحاء السودان، فإنها تتركز على طول مجرى النيل، للاستفادة من لزوجة الطمي الذي يضمن صلابة الطوب المصنوع منه.
وضمن خطوات مرهقة، يبدأ العمل في "الكماين" بعجن الطمي بعد خلطه بروث البهائم، ثم صبه في قوالب حديدية تعطي الشكل المستطيل للطوب. يُنشر بعدها الطوب في مساحات مكشوفة تحت الشمس حتى يجف، قبل البدء في رصه على مساحة بنحو عشرين مترا مربعا، مع ارتفاع قد يزيد على عشرة أمتار، يُطلق على الواحدة منها اسم "كمينة".
وتستلزم هذه المهمة ترك فراغات بين الطوب الذي يرصه العمال كأنهم يشيدون سلما، حتى يتسنى لهم بلوغ الارتفاع اللازم، ومن ثم حشو الفراغات بحزم من الحطب، تُشعل فيها النار. وتُترك النار مشتعلة ساعات لمنح قطع الطوب الصلابة اللازمة، وبعد ذلك يصعد العمال مجددا إلى أعلى "الكمينة"، لإنزال المُنتج ورصه، ليكون جاهزا للبيع.
ورغم أن "الطوب الأحمر" كان مُعتمدا في عمليات البناء عند أكثرية السكان، فإنه بدأ يتراجع خلال الأعوام الماضية لصالح الطوب المصنوع من الإسمنت.
لكن إسحق داود -الذي يعمل في واحدة من "الكماين" على ضفاف نهر النيل بمنطقة "الجريف" شرقي العاصمة الخرطوم- يجادل في أن الطوب الأحمر "سيحتفظ" بسوقه رغم بعض التراجع. ويحتج داود بـ"صلابة" الطوب الأحمر مقابل "هشاشة" الطوب المصنوع من الإسمنت، الذي يتآكل تدريجيا لكونه "مجوفا".
ولا تقف العقبات في وجه "الكماين" عند الجانب التسويقي، بل إن السلطات أخذت الطوب الإسمنتي كذريعة لإغلاقها، بسبب مخاوف "صحية وبيئية" من استخدام روث البهائم والدخان الذي يتصاعد بكثافة من هذه المعامل الشعبية.
ورغم قرار السلطات الذي اتخذته في 2015، إلا أن هذه الورشات -وعددها تسعمئة، ويعمل فيها نحو ثلاثمئة ألف عامل- لا تزال في الخدمة، كما يقول عبد العزيز بشير الذي يملك واحدة من "الكماين" في منطقة الجريف.
ويشتكي بشير من دفع "غرامات متواصلة للسلطات نظير استمرارنا في العمل، تبلغ خمسة آلاف جنيه (746 دولارا) عن المالك وألف جنيه (149 دولارا) عن العامل". ويربط الرجل بين ملاحقتهم ورغبة السلطات في تشييد مشاريع ومنتجعات سياحية، عوضا عن ورشاتهم الواقعة على ضفتي النهر.
وبالنسبة لأحمد مصطفى -وهو أحد العاملين في ورشة بشير- فإن ما يحزّ في نفسه "ترك مهنة أحبها وورثها عن أجداده"، ويعتقد أن ملاحقة السلطات التي تعطل العمل في كثير من الأحيان، هي التي قد "تقضي" على حرفتهم، وليست منافسة الطوب الإسمنتي.
وسواء قضت المطاردة الحكومية على "الكماين" أم لا، فإن أبرز معالم الخرطوم ستقف شاهدة على أثر الطوب الأحمر في بنية العاصمة، مثل القصر الجمهوري الذي شيده الأتراك عام 1832.