جماعات النوبة.. اعتزال الآخر وانصهار مع الذات

النوبيون يتميزون بكرم الضيافة لكنهم لا يفضلون الانصهار مع الغرباء
النوبيون يتميزون بكرم الضيافة لكنهم لا يفضلون الانصهار مع الغرباء (الجزيرة)

دعاء عبد اللطيف – أسوان

 

 

أن تكتفي بذاتك مع من يشبهك من الذوات هو عين الزهد في مغريات الانصهار الحضاري، وهم على ذلك زاهدون جدا؛ إذ اتخذوا العزلة سكنا لهم. ومقابل العزلة، انصهر النوبيون تمام الانصهار فيما بينهم، وكأنهم يحتمون ببعضهم في وجه أي غريب عن جغرافيتهم. وهم لا يخافون الغريب بل يحبونه ولكنه يظل غريبا، يأخذ ضيافته ويرحل، مع توديعه بابتسامة صادقة تشجع عودته مرة أخرى.

يقول سائق سيارة الأجرة "هم مترابطون جدا، في الفرح والحزن يجتمعون، لكنهم مع الغريب غير ذلك". ثم يحاول تقديم دليل على رأيه "دعوت أصدقاء نوبيين لحضور أربع مناسبات مختلفة، لكنهم لم يلبوا الدعوة، في حين أنه لو دُعي أحدهم إلى فرح نوبي على بعد ألف كيلومتر، فسيذهب".

حُمِّلت بأحاديث كثيرة عن ارتباط النوبي ببني عرقه، كان آخرها ما قاله سائق سيارة الأجرة التي أقلتني إلى أقرب مرسى لمراكب تُبحر إلى جزيرة أسوان شمالي النوبة، والتي يسكنها الكنوز، وهي واحدة من ثلاث جماعات تتكون منها النوبة.

وإلى جانب الكنوز، يوجد الفاديجا والنوبيون العرب، وداخلهم تتفرع العديد من القبائل التي تنصهر في جسد الجماعة، فلا يمكن أن تلتقي بأحدهم وتسأله عن أصله إلا أرجعه للجماعات الثلاث السالفة، دون ذكر قبيلة بعينها، وإن خف الأمر قليلا مع العرب.

والجماعات الثلاث كانت قديما تُشكل النوبة السفلى -النوبة المصرية حاليا- والتي تبدأ من بلدة دابود المصرية جنوب مدينة أسوان إلى قرية أدندان بطول 350 كيلومترا. أما النوبة العليا ففيها شريحة من تلك الجماعات مع عروق أخرى، وتبدأ جغرافيتها بحدود السودان مع مصر إلى قرية الدبة السودانية بطول 650 كيلومترا. ولكن مع محاولات تاريخية لفصل النوبتين كللت بالنجاح بتوقيع الاتفاق الثنائي بين مصر وإنجلترا عام 1899، انفردت الأخيرة بحكم السودان ومن ثم تشريح المنطقة لقسمين.

عجوز نوبي يسكن جزيرة أسوان (الجزيرة)
عجوز نوبي يسكن جزيرة أسوان (الجزيرة)

ثلاثة عروق
والفادجا يمثلون العرق الأصلي الذي عاش في بلاد النوبة، ولكن بحكم موقع النوبة الفاتح ذراعيه للشمال والجنوب، استقبل الفاديجات- كما يلقبون أنفسهم- هجرات بعض الجماعات الأفريقية خاصة الزنوج، مما أدى إلى اكتسابهم بعض الملامح الأفريقية التي تتسم بالطول وبروز الفكين والأنف العريض.

وقبل تهجير قرى النوبة عاش الفادجا على الشريط الجنوبي لها بطول 125 كيلومترا، في قرى الدر والديوان وتوماس وعافيه وكرسكو وأبو حنضل وتنقالة وإبريم وقتة وعنيبة ومصمص وتوشكى وارمنا والجنينة والشباك وقسطل وأبوسميل وبلانة وأدندان، لكن غالبيتهم هُجِروا شمالا إلى نصر النوبة، شمال شرق أسوان عام 1964 مع بناء السد العالي.

ويتحدث الفاديجا "الفاديجية"، وهي لغة غير مكتوبة لذلك تُصنف باعتبارها لهجة، وإن كان متحدثوها يعتبرونها لغة قائمة بذاتها.

أما الكنوز أو الماتوكية -وتعني بلغتهم: القادم من الشرق- فأصولهم تعود لقبيلة بني ربيعة من شبه الجزيرة العربية، حيث استقر فرع من القبيلة في منطقة عيذاب جنوب الصحراء الشرقية في مصر، وأسسوا إمارة قوية في أسوان وما حولها، وكان أحد أمرائها هو أبو المكارم بن محمد بن علي الذي قبض على أحد المتمردين على الدولة الفاطمية، فأنعم عليه الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله بلقب كنز الدولة، فعرف ساكنوا تلك المنطقة بالكنوز.

وسكن الكنوز شمالي النوبة على طول 145 كيلومترا من شريط النهر، في قرى وجزر أسوان وغرب أسوان والكرور وغرب سهيل وسهيل وفيلة وهيسا وتنجار والشلال ودهميت وامبركاب وكلابشه ودابود ومرواو وماريا وجرف حسين وقرشة وكشتمنه والدكة وأبو هور والعلاقي وقورتة والمضيق، وامتصت ثقافة الفادجا الساكنين الجدد فباتوا نوبيين، ولكن بلغة أو لهجة أخرى غير الفاديجية، وهي الكنزية أو الماتوكية.

ومع التهجير إلى نصر النوبة، سكن الكنوز 17 قرية من القرى الجديدة، ومنها الامبركاب وقوتة والسيالة، فضلا عن أولئك الذين فضلوا البقاء على سفوح الجبال والجزر بعدما أغرقت مياه الخزان والسد أراضيهم.

حجرة استقبال ضيوف داخل متحف بجزيرة أسوان (الجزيرة)
حجرة استقبال ضيوف داخل متحف بجزيرة أسوان (الجزيرة)

وفي القرن الثامن عشر، هاجرت جماعات من قبيلة "العليقات" -التي يرجع نسبها إلى عقيل بن علي بن أبي طالب- إلى النوبة، وسكنت المنطقة الوسط بين الكنوز شمالا والفادجا جنوبا بطول 45 كيلومترا، فيما سُمي بوادي العرب. ولكن عند التهجير في القرن الماضي انتقل أغلبهم لخمس قرى في نصر النوبة، هي السبوع ووادي العرب والمالكي، كما لهم أغلبية في نجع جبل تقوق، إذ يشاركهم فيه صعايدة من محافظات قنا وسوهاج وأسيوط.

ومرة أخرى انصهر السكان الجدد بأصحاب الأرض، ولكن تمام الانصهار كان بين النوبيين العرب والكنوز، فكما يقول العليقات "أبانا عربي وأمنا كنزية".

ولا توجد إحصائية خاصة بعدد النوبيين المصريين على مختلف أعراقهم، ولكن آخر إحصاء لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار سنة 2012 لسكان نصر النوبة -التي هٌجر إليها النوبيون في ستينيات القرن الماضي- هو 85 ألف شخص.

أما سكان الجزر والنجوع المترامية على سفوح الجبال والجزر فلا حصر لعددهم، وإن كانت المشاهدة الميدانية تقول إنهم أقل بكثير من منطقة التهجير، فضلا عن عدم إحصاء المهاجرين إلى العاصمة وباقي المحافظات ومن هاجروا خارج البلاد.

النوبيون يتميزون بكرم الضيافة لكنهم لا يفضلون الانصهار مع الغرباء (الجزيرة)
النوبيون يتميزون بكرم الضيافة لكنهم لا يفضلون الانصهار مع الغرباء (الجزيرة)

ترابط
يبتسم في ود فتتلاقى تجاعيد محيطة بعينيه، ثم يمرر "الطبيعة فرضت علينا العزلة التي فرضت الترابط فيما بيننا"، وينفي العجوز السبعيني مصطفى -من عرق الكنوز- صفات القبلية عن النوبيين كالعصبية للسلالة، وإن كانوا جميعهم منحدرين من قبائل.

ويضيف "كل منا يستطيع ذكر سلالته كلها إلى آخر جد، لكننا نظل نوبيين". والأسرة الواحدة تظل هي المشكّل الرئيسي لنواة المجتمع النوبي، لكن مع اندلاع مشكلات كبيرة تظهر العروق القبلية كمحاولة للحل لا لمناصرة المخطئ أو المظلوم، كما يؤكد الرجل السبعيني.

لكن عبد الغفور -من جماعة النوبيين العرب- يميل إلى الاعتراف بالقبلية داخل جماعته، ويطرح تحليله في ذلك "نحن أقل الجماعات النوبية عددا، وقبائلنا قليلة ومعروفة مقارنة بالقبائل الكنزية والفاديجية الكثيرة جدا".

والنوبيون العرب يفتخرون بعرقهم المنتهي نسبه إلى أحفاد الرسول عليه الصلاة والسلام، فهم أشراف، كما أن غالبيتهم ينتمون إلى طرق صوفية، وإن اجتمع أغلبهم حبا في الطريقة الجعفرية، كما يقول عبد الغفور بلهجة فخر.

المصدر : الجزيرة