ما المرض النفسي الذي يعاني منه الجوكر؟

د. أسامة أبو الرب

هل شاهدت فيلم الجوكر؟ هل تساءلت عن الأمراض العقلية التي يعاني منها البطل آرثر فليك التي قادته إلى أن يصبح هذا المجرم الأسطوري؟ سنحاول في تقريرنا الإجابة عن هذا السؤال، وأيضا نحذرك أننا سنحرق بعض الأحداث، لذلك إذا كنت تنوي مشاهدة الفيلم فأجل قراءة التقرير، أضفه للمفضلة وعد إليه بعد مشاهدة الفيلم.

فيلم الجوكر من بطولة خواكين فينيكس وزازي بيتز وروبرت دي نيرو وفرانسيس كونروي ومن إخراج تود فيلبس. ويدور الفيلم حول شخصية وحيدة مضطربة تتعرض لتنمر وصعوبات.

ويحكي الفيلم قصة آرثر فليك (يلعب دوره خواكين فينيكس)، الذي يلجأ إلى العنف بعد أن شعر بالغضب والحنق تجاه المجتمع، ويحاول الفيلم أن يشرح كيف تحول الرجل الذي كان يوما ما مريضا عقليا إلى أكثر الأشرار شهرة في ملحمة باتمان.

وعندما بدأ عرض فيلم الجوكر في 4 أكتوبر/تشرين الأول الماضي تأهبت الشرطة في مدن أميركية، بعد مخاوف من أن عرض الفيلم قد يؤدي لاندلاع عنف.

ووصف نقاد السينما أداء فينيكس بأنه عبقري لكنه مرعب، حيث يعرض شخصية انطوائية مضطربة عقليا يجد طريق الشهرة بشكل غير مقصود عبر العنف.

اختصاصي الأعصاب أدريان راين -وهو رائد في دراسة عقول المجرمين العنيفين حيث كان أول شخص يستخدم تصوير الدماغ لدراسة القتلة- شاهد فيلم الجوكر، وقال إن ما رآه على الشاشة فاجأه.

وصف حقيقي
ووفقا لراين، فإن النص يتتبع بشكل حقيقي الطريقة التي يمكن أن يسير عليها الشخص نحو أعمال عنف مقلقة للغاية من خلال مزيج من الوراثة، والصدمات النفسية في مرحلة الطفولة، والأمراض العقلية غير المعالجة، والاستفزاز الاجتماعي.

وأضاف أن الفيلم شكل تنبؤا دقيقا ومدهشا لنوع الخلفية والظروف التي إذا اجتمعت تصنع قاتلا.

وأشار راين إلى العوامل الموضحة في فيلم الجوكر التي ساهمت في منعطف آرثر فليك العنيف، مثل الإساءة الجسدية والإهمال وسوء التغذية. كما أشار إلى ما اكتشفه آرثر عند سرقة ملفات الصحة العقلية لوالدته، وهو أنه متبنى، والأطفال المتبنون أكثر عرضة مرتين أو ثلاث مرات لأن يصبحوا مجرمين، والسبب لأنه خلال التبني يفصل الطفل عن الأم لفترة من الزمن، مما يكسر الترابط بين الأم والرضيع في فترة حرجة "نعرف أنها تؤثر على تطور الشخصية"، وفقا لراين.

ويمكن إجمال المشاكل العقلية التي يعاني منها آرثر (الجوكر) بالتالي:

1- الاكتئاب، وهو مرض عقلي يؤثر في مزاج الفرد ويؤدي لحدوث تغيرات في طريقة تفكيره ومشاعره وسلوكه، ويصيبه بالحزن وفقدان الاهتمام واحتقار الذات. والاكتئاب مرض مزمن يؤثر في حياة الشخص وقد يؤدي إلى أعراض جسمية كآلام غير معروفة الأسباب، كما قد يقود المصاب به إلى الانتحار.

2- الهلوسات، وهي أحاسيس يشعر بها المرء بحواسه ولكنها تكون غير حقيقية، مع أنه يراها ويسمعها فعلا، ومن الأمثلة عليها قصة حب آرثر الخيالية مع إحدى الجارات، وأيضا مشاهدته لنفسه في إستوديو موراي فرانكلين بداية الفيلم، وامتداح فرانكلين له.

3- اضطراب الشخصية الفصامي Schizotypal personality disorder، ويقول راين إنه يشبه نسخة مخففة من مرض الفصام، والذين يعانون منه يكون لديهم غرابة في المعتقدات والسلوك والمظهر والخطاب، وليس لهم أصدقاء مقربون بخلاف أفراد الأسرة.

والفصام هو مرض عقلي يصيب نسبة قد تصل إلى 1% من المجتمع، وفيه يرى المريض ويسمع أمورا وأصواتا غير حقيقية، ويعرف الفصام أيضا باسم "الشيزوفرينيا"، وتقول المؤسسة الوطنية للصحة العقلية في الولايات المتحدة إن مرض الفصام يصيب 1% من السكان، ولكن هذه النسبة ترتفع إلى 10% لدى الأشخاص الذين لديهم قريب من الدرجة الأولى مصاب بالمرض.

والفصام مرض عقلي يحدث فيه اضطراب في طريقة تفكير الشخص وسلوكه وحواسه، وهو اضطراب مزمن يتطلب أن يتلقى المريض العلاج والرعاية طيلة حياته.

ويقول راين "لا أعتقد أن الجوكر يتمتع بإرادة حرة، بالنظر إلى حياته. لقد كان قنبلة موقوتة في انتظار أن ينفجر، كل ما يتطلبه الأمر كان بعض ضغوط الحياة، الضرب، فقدان الوظيفة.. لم يتبق شيء".

لكن رأي راين ليس الرأي الوحيد من قبل الاختصاصيين النفسيين، فهناك من يرى أن الفيلم وشخصية الجوكر أعطت صورة مغلوطة عن المرضى النفسيين والمرض العقلي.

حيث كتبت الدكتورة اختصاصية الطب النفسي جنا علي زعبلاوي، على صفحتها بفيسبوك حول فيلم الجوكر "لست محللة أفلام ولا ناقدة، ولست من صانعي الأفلام لأقيّم الفيلم من ناحية تقنية وضوء وتصوير إلخ، لكن يؤلمني كطبيبة نفسية أننا سندخل سنة 2020 وما زال هناك أفلام تنتج تزيد من الوصمة ضد المرض النفسي وتوصل أفكارا بعيدة كل البعد عن المريض النفسي و تصرفاته".

صورة غير صحيحة
ويقول أستاذ الطب النفسي الدكتور زيف كوهين -المتخصص في العنف والاعتلال النفسي- إن الفيلم يعزز الصورة النمطية غير الصحيحة التي تشير إلى وجود صلة بين المرض العقلي والعنف، لافتا إلى أن الجوكر ربما لا يمكن تشخيصه على أي حال.

وبرأي كوهين -وهو طبيب نفسي جنائي وأستاذ مساعد في الطب النفسي بجامعة كورنيل- فإن الجوكر لا يندرج ضمن معايير التشخيص مثل الفصام أو الاضطراب الثنائي القطب، ومن المرجح أن يكون مختلا عقليا "سايكوباثي" sychopath، ولكن حتى هذا يشكل تبسيطا لحالته.

والسايكوباثية هي اضطراب في الشخصية يتميز صاحبه بالعديد من الصفات، أهمها سلوك ضد المجتمع (anti-social)، والغطرسة والخيانة والتلاعب بالآخرين، مع افتقاد الشعور بالتعاطف مع ضحاياه، وعدم الشعور بالذنب أو الندم على أفعاله الخاطئة، وهو أمر غالبا ما يقود إلى سلوك إجرامي.

ويعتقد بعض الأطباء النفسيين أن الشخصية السايكوباثية تمثل قمة التطرف في ارتكاب الجرائم والموبقات، مع الاعتداء على الآخرين والكذب والسرقة، وتدعم اعتقادهم حقيقة شيوع هذا الاضطراب لدى الأشخاص الموجودين في السجن.

ولكن كوهين يستدرك قائلا "بعض الجرائم الكبرى في تاريخ البشرية ارتكبها أشخاص ليس لديهم مرض عقلي أو دليل على اعتلال نفسي في حياتهم".

ويضيف كوهين إنه يشعر بالقلق من أن هذه القصة ستزيد من وصمة العار الموجودة بالفعل حول الأمراض العقلية. وقال "تشير البحوث بوضوح إلى أن الأفراد المصابين بأمراض عقلية ليسوا أكثر عنفا من السكان ككل، وفي الواقع، من المرجح أن يكون الأشخاص المصابون بمرض عقلي ضحايا للجرائم أكثر من ارتكابها".

وضرب كوهين مثالين على الاضطرابات العقلية التي لا يعاني منها الجوكر، وفقا لرأيه:

1- مرض الفصام: وقال كوهين إنه من الواضح أن جوكر لا يناسب قالب هذا المرض، إنه مفكر صريح للغاية، ولديه دوافع كبيرة، وهو قادر على التفاعل مع الآخرين على مستوى عالٍ للغاية (أي التلاعب بهم).

2- الاضطراب الثنائي القطب، وهو حالة تتميز بنوبات من "الهوس" و"الاكتئاب". عند الهوس، فإن الشخص المصاب باضطراب ثنائي القطب سوف يكون نشطا للغاية ومندفعا، ويتحدث بسرعة، ويشارك بشكل مفرط في سلوكيات مثل ممارسة الجنس وإنفاق مبالغ ضخمة من المال. وقال كوهين "على النقيض من ذلك، فإن الجوكر يظهر ضبطا ممتازا للذات". "يمكن أن يكون سريعا عندما يحتاج إلى ذلك، لكن يمكنه أيضا التحكم في سلوكه والتصرف مهما كانت الأجزاء التي تناسبه. هذا لا يتفق على الإطلاق مع الاضطراب الثنائي القطب".

ويقول كوهين إن الجوكر يمكن اعتباره سايكوباثي، وهو أمر يرتبط بالتلاعب والقسوة والقدرة على معرفة الفرق بين الصواب والخطأ، ولكن الحرص الشديد على القواعد في الممارسة العملية. باختصار ليس لدى السايكوباثي أي تعاطف مع الآخرين ويتصرف بناء على دوافعهم ويتخذ قرارات محسوبة حتى يتقدم وحده.

الدكتورة إيماني ووكر -هي طبيبة نفسية تعمل مديرة طبية لمستشفى غيتويز ومركز الصحة العقلية في لوس أنجلوس- تقول إن الجوكر يعاني من التقلقل العاطفي  Pseudobulbar effect (PBA) وهي حالة تتميز بنوبات من الضحك أو البكاء المفاجئ وغير المناسب، وتحدث عادة لدى الأشخاص الذين يعانون من حالات أو إصابات عصبية معينة، مما قد يؤثر في الطريقة التي يتحكم بها المخ في العواطف.

تحريف
هناك مخاوف من أن هذا الفيلم يشوه ويحرف حقيقة المرض العقلي، ويضيف المزيد من التشويه للمرضى النفسيين، ويولد الاعتقاد لدى المشاهدين بأنه ينبغي معاملة الأشخاص الذين يعانون من الأمراض العقلية على أنهم منبوذون اجتماعيون ويجب تجنبهم.

نعلم أن آرثر يتناول سبعة أدوية مختلفة لكنه لا يزال يعاني من أعراض مرضه العقلي، وفي الحقيقة فإنه يبدو متابعا لمواعيده مع الاستشارية النفسية، بل ويطلب زيادة جرعة أدويته لأنه يرى أن تأثيرها غير كاف، ولكن الأمور تنقلب بعد أن تقوم مدينة غوثام بتخفيض تمويل الخدمات الاجتماعية وإغلاق المركز الذي كان يراجع فيه آرثر، لذلك لا يعود بإمكانه الحصول على الاستشارة والأدوية، وتتدهور صحته العقلية.

هذا المشهد يشير إلى مشكلة حقيقة تواجه الأشخاص الذين يعانون من أمراض عقلية، وهي عدم قدرتهم على مراجعة أطباء نتيجة الفقر، أو عدم وجود عيادات نفسية، فرغم أن الملايين من الناس يعانون من مشاكل الصحة العقلية، فإن الدراسات تكشف أن ثلثي المصابين فقط يطلبون المساعدة من الطبيب النفسي. 

هناك أمر لافت أيضا، وهو أن آرثر كان يخطط للانتحار وقتل نفسه في برنامج موراي فرانكلين، مما يشير إلى أنه يعاني من الاكتئاب الشديد، وتدرب على ذلك في المنزل، وأيضا أعاد تمثيل ما سيفعله وهو في غرفة الملابس ينتظر الدخول للعرض، ولكنه في اللحظة الأخيرة يسأل فرانكلين "ماذا تحصل عندما تقاطع شخصا وحيدا ومريضا عقليا مع مجتمع يتخلى عنه ويعامله مثل القمامة؟"، ثم يقتله بوحشية.

هذا قد يشير إلى أن آرثر ليس مصابا بالاكتئاب، ولكنه سايكوباثي، فهو مجرم وحشي، وهذا مرضه الحقيقي.

ختاما قد يكون الجوكر مريضا عقليا، ولكن المجتمع أيضا الذي حرمه من العلاج وعامله باحتقار مريض أيضا، فالمجتمع في الفيلم مارس ضغوطا ضد المريض العقلي آرثر ودفعه للتحول إلى الجوكر. وفي النهاية يجب ألا نسمح لفيلم الجوكر بأن يؤثر في سلوكنا تجاه المرضى العقليين، الذين هم ضحايا المرض العقلي، وهم بحاجة لكل أنواع الدعم والتعاطف والعلاج الدوائي والنفسي.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية + مواقع التواصل الاجتماعي + وكالات