الشيوعية.. أيديولوجيا نشأت لنصرة العمال

الشيوعية عقيدة سياسية واقتصادية تهدف إلى تعويض الملكية الخاصة والاقتصاد القائم على الربح بالملكية العامة والسيطرة المجتمعية على وسائل الإنتاج الرئيسية على الأقل (مثل المناجم والمطاحن والمصانع) والموارد الطبيعية للمجتمع.

وتعتبر الشيوعية شكلا من أشكال الاشتراكية، مع وجود بعض الفروقات، وقد ظهرت في البداية على شكل دعوة لتخليص المجتمعات من الفوارق الطبقية، وتطورت مع الزمن لتصبح حركة سياسية وفكرية خلال العصر الحديث، بداية من القرن الـ19.

ما الشيوعية؟

الشيوعية هي أيديولوجية اجتماعية وسياسية وفلسفية واقتصادية يسارية، هدفها إنشاء دولة يتمحور فيها المجتمع حول الملكية المشتركة لوسائل الإنتاج وتوزيع المنتجات لكل فرد في المجتمع على أساس الحاجة، والقضاء على الطبقات الاجتماعية المتباينة.

يسعى الشيوعيون غالبا إلى إقامة حالة طوعية من الحكم الذاتي، لكنهم يختلفون حول وسائل تحقيق هذه الغاية. وبسبب اختلاف الوسائل، يتم التمييز بين عدد من الأطياف السياسية المختلفة التي تتبنى الشيوعية كمبدأ عام مع وجود اختلافات فيما بينها.

ورغم أن الشيوعية تعتبر شكلا من أشكال الاشتراكية، فإنه قد تم التمييز بين المصطلحين منذ أربعينيات القرن الـ19.

قيادات الاحزاب الشيوعية في إحدى جلسات الاجتماع وبدا حنين نمر الامين الاول للحزب الشيوعي السوري متحدثا
قيادات أحزاب شيوعية وفي الوسط حنين نمر الأمين الأول للحزب الشيوعي السوري (الجزيرة)

فالاشتراكية تهدف فقط إلى إضفاء الطابع الاجتماعي على الإنتاج، في حين أن الشيوعية تهدف إلى إضفاء الطابع الاجتماعي على كل من الإنتاج والاستهلاك.

ويمكن ملاحظة هذا التمييز في شيوعية الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني كارل ماركس، إذ يقوم توزيع المنتجات على مبدأ "لكل حسب حاجته"، على النقيض من المبدأ الاشتراكي "لكل حسب مساهمته". وتم وصف الاشتراكية على أنها فلسفة تسعى إلى العدالة التوزيعية، والشيوعية باعتبارها مجموعة فرعية من الاشتراكية التي تفضل المساواة الاقتصادية كشكل من أشكال العدالة التوزيعية.

تاريخ الشيوعية ومدارسها الفكرية

ظهرت فكرة المساواة المجتمعية وتخليص المجتمع من الطبقات للمرة الأولى في اليونان القديمة، كذلك ووصفت حركة المصلح الديني "مازداك" في بلاد فارس في القرن الخامس الميلادي على أنها حركة شيوعية في جوهرها، لكونها تحدت الامتيازات الواسعة الممنوحة لطبقة النبلاء ورجال الدين على حساب الفقراء. وعلى مر الزمن ظهرت عدة حركات اجتماعية ودينية أخرى حملت "فكرا شيوعيا" ونادت بالمساواة المجتمعية.

ويتم إرجاع الفكر الشيوعي إلى المحامي والفيلسوف الإنجليزي توماس مور، الذي نشر أطروحة في القرن الـ16 بعنوان "المدينة الفاضلة"، صور فيها مجتمعا قائما على المساواة والتوزيع العادل للملكيات على كافة أبناء الشعب.

midan - كارل ماركس
كارل ماركس يعد أحد واضعي أسس الأيديولوجية الشيوعية (مواقع التواصل الاجتماعي)

ودعا إلى الفكرة ذاتها فلاسفة آخرون في وقت لاحق، ومع ذلك لم تتبلور الشيوعية بمعناها الحديث حتى القرن الـ19 مع ظهور الحركة الاشتراكية التي هاجمت الرأسمالية وعدّتها مسؤولة عن البؤس الذي يعيشه عمال المصانع في المناطق الحضرية، الذين يعملون في ظروف خطرة.

وفي عام 1848 أصدر ماركس وزميله فريدريك إنغلز تعريفا جديدا للشيوعية نُشِر في كتيب شهير حمل اسم "البيان الشيوعي".

ويخلص هذا البيان إلى أن الرأسمالية لا تقدم للإنسانية إمكانية تحقيق الذات، بل تضمن بدلا من ذلك أن يعاني البشر من التقزم والعزلة بشكل دائم.

ويرى البيان أن الرأسمالية من الممكن أن تتدمر وتندثر في حال توحدت البروليتاريا (الطبقة العاملة)، كما يتنبأ بأن الثورة ستؤدي إلى ظهور الشيوعية، وهو مجتمع لا طبقي يكون فيه "التطور الحر لكل فرد هو شرط التطور الحر للجميع".

واقترح كل من ماركس وإنغلز في بيانهما السياسات الانتقالية التالية:

  • إلغاء الملكية الخاصة في الأرض والميراث.
  • إدخال ضريبة دخل تصاعدية.
  • مصادرة ممتلكات المتمردين.
  • تأميم قطاعات الائتمان والاتصالات والنقل.
  • التوسع والتكامل بين الصناعة والزراعة.
  • إنفاذ الالتزام العالمي بالعمل.
  • توفير التعليم الشامل وإلغاء عمالة الأطفال.

وانتهى البيان بدعوة حاسمة للتضامن بين البروليتاريين، تحت الشعار الشهير: "يا عمال العالم اتحدوا ليس لديكم ما تخسرونه سوى قيودكم".

ورغم ارتباط الشيوعية الحديثة لدى كثيرين بأعمال كارل ماركس، فإنه من المهم ملاحظة وجود مجموعة متنوعة من المدارس الفكرية الشيوعية، التي تشمل على نطاق واسع الماركسية واللينينية والشيوعية التحررية، بالإضافة إلى الأيديولوجيات السياسية المتمحورة حول تلك المدارس.

وتشترك كل هذه الأيديولوجيات المختلفة عموما في التحليل القائل إن النظام الحالي للمجتمع ينبع من الرأسمالية ونظامها الاقتصادي ونمط الإنتاج، وإنه يوجد في هذا النظام طبقتان اجتماعيتان رئيسيتان، هما البروليتاريا، التي تشكل غالبية السكان داخل المجتمع، الذين يتوجب عليهم العمل من أجل البقاء، والطبقة البرجوازية، وهي أقلية صغيرة تحصل على الأرباح من خلال توظيف الطبقة العاملة في القطاع الخاص.

وتتفق الأيديولوجيات الشيوعية المختلفة على أن العلاقة بين هاتين الطبقتين استغلالية، وأن هذا الوضع لا يمكن حله في نهاية المطاف إلا من خلال ثورة اجتماعية.

ووفقا لهذا التحليل، فإن الثورة الشيوعية ستضع الطبقة العاملة في السلطة، وتؤسس بدورها ملكية مشتركة للملكيات الخاصة والعامة، وهذا هو العنصر الأساسي في تحويل المجتمع نحو نمط الإنتاج الشيوعي.

الشيوعية الماركسية

تعد نظريات كارل ماركس وفريدريك إنغلز من أشهر النظريات التي أسست للشيوعية الحديثة، والتي بات يشار إليها باسم "الماركسية" نسبة لماركس.

وفقا للنظرية الماركسية، ينشأ الصراع الطبقي في المجتمعات الرأسمالية بسبب التناقضات بين المصالح المادية للبروليتاريا المضطهدة والمستغلة -وهي طبقة من العمال المأجورين المستخدمين لإنتاج السلع والخدمات- والبرجوازية -الطبقة الحاكمة- التي تمتلك وسائل الإنتاج، وتستخرج ثروتها وأرباحها من خلال الاستيلاء على فائض الإنتاج الذي تنتجه البروليتاريا.

هذا الصراع الطبقي يؤدي إلى فترة من الأزمات القصيرة الأمد، وفي فترات الأزمات العميقة يمكن لمقاومة المضطهدين أن تبلغ ذروتها بثورة بروليتارية تؤدي في حال انتصارها إلى إنشاء نمط الإنتاج الاشتراكي القائم على الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج "الكل حسب مساهمته".

ومع استمرار القوى المنتجة في التقدم فإن المجتمع الشيوعي يتبع مبدأ "من كل حسب قدرته، إلى كل حسب احتياجاته".

وقد تطورت الشيوعية الماركسية ليتفرع عنها عدة مدارس فكرية مختلفة تملك روحا موحدة وتلتقي مع الماركسية الكلاسيكية بنقاط وتختلف عنها بنقاط أخرى.

وتعد الماركسية اللينينية الأكثر شهرة بين هذه المدارس الفكرية، فقد كانت بمثابة قوة دافعة في العلاقات الدولية خلال معظم القرن العشرين.

الشيوعية الثورية

كانت روسيا في أوائل القرن العشرين مكانا غير محتمل للثورة البروليتارية التي تنبأ بها ماركس، فقد كان اقتصادها زراعيا في المقام الأول ومصانعها قليلة، ومعظم الروس عملوا فلاحين يزرعون الأراضي المملوكة للنبلاء الأثرياء، أي أنها كانت أقرب إلى الإقطاعية من الرأسمالية.

غير أن الاستياء كان متصاعدا في الريف، ورأى حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي بقيادة فلاديمير لينين فرصة لتسخير هذا الاستياء للإطاحة بالنظام القيصري الاستبدادي، وإرساء نظام اقتصادي وسياسي مختلف جذريا.

وبصفته رئيسا للفصيل البلشفي الثوري في الحزب، أجرى لينين تغييرين مهمين على نظرية وممارسة الشيوعية كما تصورها ماركس، وكانت هذه التغييرات مهمة لدرجة أعيدت معها تسمية أيديولوجية الحزب لاحقا بالماركسية اللينينية.

التغيير الأول هو أن الثورة لا يمكن ولا ينبغي أن تقوم بها البروليتاريا بشكل عفوي، كما توقع ماركس، بل يجب أن يقوم بها العمال والفلاحون بقيادة حزب "طليعي" نخبوي يتكون من مثقفين من الطبقة الوسطى (مثل لينين) ويجب أن تكون سرية، منظمة بإحكام ومنضبطة للغاية، إذ سيقوم الحزب الشيوعي بتثقيف وتوجيه الجماهير.

وادعى لينين أن هذا كان ضروريا لأن الجماهير تعاني من "وعي زائف" وغير قادرة على تمييز مصالحها الحقيقية، لذلك لا يمكن الوثوق بها في حكم نفسها بنفسها.

ووفقا للماركسية اللينينية تتم ممارسة الديمقراطية داخل الحزب فقط، وحتى هذه يجب أن تكون مقيدة بسياسة محددة. وأكد لينين أن مثل هذا الانضباط الصارم ضروري، إذا كان للحزب أن يرشد الجماهير إلى الثورة ويؤسس الدولة العمالية الاشتراكية التي ستتبعها.

أما التغيير الثاني فيتمثل في أن الثورة الشيوعية لن تبدأ في البلدان الرأسمالية المتقدمة مثل ألمانيا وبريطانيا، لأن العمال هناك كانوا مشبعين بـ"الوعي النقابي" ذي التوجه الإصلاحي، بدلا من "الوعي الطبقي الثوري".

ووفقا للينين فإن هذا يرجع إلى الاستغلال الأكثر وحشية ومباشرة للعمال في تلك الدول، حيث حصد الرأسماليون "أرباحا فائقة" من المواد الخام الرخيصة والعمالة المتوفرة، ومن ثم تمكنوا من "رشوة" العمال بأجور أعلى قليلا وأسبوع عمل أقصر وإصلاحات أخرى.

لذلك، خلافا لتوقعات ماركس، بدأت الثورة الشيوعية في البلدان التي كانت متخلفة اقتصاديا، مثل روسيا، وفي البلدان المستعمرة والمستغلة في المحيط الرأسمالي، التي سُميت فيما بعد بالعالم الثالث.

ومع نجاح الثورة الروسية عام 1917، شكل الاتحاد السوفياتي أول حكومة شيوعية تتبنى الماركسية اللينينية في القرن العشرين، وتبعتها فيما بعد حكومات أخرى في أجزاء من أوروبا الشرقية وآسيا وبعض المناطق الأخرى بعد الحرب العالمية الثانية.

وباعتبارها أحد أنواع الاشتراكية العديدة، أصبحت الشيوعية هي الاتجاه السياسي السائد إلى جانب الديمقراطية الاجتماعية داخل الحركة الاشتراكية الدولية بحلول أوائل عشرينيات القرن العشرين.

وعاش نحو ثلث سكان العالم خلال القرن الـ20 في ظل حكومات شيوعية اتسمت بحكم الحزب الواحد (الحزب الشيوعي)، ورفض الملكية الخاصة والرأسمالية، وسيطرة الدولة على النشاط الاقتصادي ووسائل الإعلام مع فرض القيود على الحرية الدينية وقمع المعارضين.

ومع تفكك الاتحاد السوفياتي في عام 1991، تخلت عدة حكومات شيوعية سابقة عن الحكم الشيوعي أو ألغته تماما، ولم يبق سوى عدد قليل من الحكومات الشيوعية اسميا وهي الصين وكوبا ولاوس وكوريا الشمالية وفيتنام.

وباستثناء كوريا الشمالية، بدأت جميع هذه الدول بالسماح بمزيد من المنافسة الاقتصادية مع الحفاظ على حكم الحزب الواحد.

يُعزى تراجع الشيوعية في أواخر القرن الـ20 إلى عدم الكفاءة المتأصلة في الاقتصادات الشيوعية والاتجاه العام للحكومات الشيوعية نحو الاستبداد والبيروقراطية.

وفي حين أن ظهور الاتحاد السوفياتي كأول دولة شيوعية في العالم أدى إلى ارتباط الشيوعية على نطاق واسع بالنموذج الاقتصادي السوفياتي، ويفترض عدد من العلماء أن النموذج الشيوعي السوفياتي لم يكن عمليا سوى شكل من أشكال رأسمالية الدولة.

انتقادات الشيوعية

بشكل أساسي وجهت انتقادات إلى الشيوعية بسبب الخلط بينها وبين النظام السياسي والاقتصادي الذي تطور في الاتحاد السوفياتي بعد ثورة عام 1917.

إذ فشلت الشيوعية ذات النمط السوفياتي بسبب النظام الاقتصادي والسياسي الصارم والمفرط في المركزية والقمع والبيروقراطية، لكن يقول المؤرخ أندريه باتشكوفسكي إن النمط السوفياتي يخالف الشيوعية من حيث الجوهر، إذ إن الشيوعية هي أيديولوجية مبنية على الرغبة العلمانية للإنسانية في تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، التي وعدت بقفزة كبيرة للأمام نحو الحرية.

مع ذلك لم يسلم النظام الاقتصادي الشيوعي من الانتقادات بعيدا عن التجربة السوفياتية، فوفقا للاقتصادي النمساوي الأميركي لودفيج فون ميزس فإنه من خلال إلغاء الأسواق الحرة، لن يكون لدى المسؤولين الشيوعيين نظام الأسعار اللازم لتوجيه إنتاجهم المخطط له.

وبعيدا عن الانتقادات، واجهت الشيوعية عداءات منظمة وعنيفة بمجرد أن أصبحت حركة سياسية واعية في القرن الـ19.

واستهدف الشيوعيون وأنصارهم بعمليات قتل جماعي ارتكبها مناهضو الشيوعية والمنظمات السياسية أو الحكومات المعارضة للشيوعية، لا سيما خلال الحرب الباردة، وكان كثير من تلك العمليات مدعوما من الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من الكتلة الغربية.

ومن الأمثلة على ذلك عمليات القتل الجماعي في إندونيسيا في الفترة من 1965 إلى 1966، وعملية كوندور في أميركا الجنوبية.

المصدر : مواقع إلكترونية