الفشقة.. عقود من النزاع بين السودان وإثيوبيا

منذ خمسينيات القرن الماضي، تتهم الخرطوم ما تصفها بمليشيات إثيوبية باعتداءات متكررة على منطقة الفشقة السودانية المتاخمة للحدود.

إحدى زيارات رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان للقوات السودانية في الفشقة (مواقع التواصل)

أكثر من قرن مر على النزاع الحدودي في منطقة الفشقة على الحدود الشرقية بين السودان وإثيوبيا، وهو النزاع الذي ما يلبث أن يخفت حتى يشتعل مرة أخرى بين الجارتين.

شرارة الصراع اندلعت عام 1902، عندما تم توقيع معاهدة الحدود في ترسيم الحدود الإثيوبية السودانية بين إمبراطورية إثيوبيا والإدارة الاستعمارية البريطانية في السودان.

ومنذ خمسينيات القرن الماضي، يتهم الجانب السوداني ما يصفها بـ"مليشيات إثيوبية" باعتداءات متكررة على منطقة الفشقة السودانية المتاخمة للحدود، بهدف إخلاء الشريط الحدودي من المزارعين السودانيين، وهو ما ينفيه الجانب الإثيوبي.

الموقع

الفشقة تقع بين نهرين، حيث تلتقي منطقتا أمهرة وتيغراي في شمال إثيوبيا بولاية القضارف الواقعة في شرق السودان والمحاذية لمنطقة أمهرة الإثيوبية.

وتعد الفشقة إحدى المحليات الخمس المكونة لولاية القضارف، وهي منطقة معزولة عن بقية السودان، تبدو على شكل شبه جزيرة تتخللها أنهار باسلام (أو السلام) وعطبرة وسيتيت، ويقطنها مئات المزارعين الإثيوبيين، رغم أنها تقع داخل أرض السودان.

تبلغ مساحة الفشقة نحو مليوني فدان، وتمتد على مسافة 168 كيلومترا مع الحدود الإثيوبية من مجمل المسافة الحدودية لولاية القضارف السودانية مع إثيوبيا، البالغة نحو 265 كيلومترا.

وتضم الفشقة أخصب الأراضي الزراعية في السودان، وتنقسم إلى 3 مناطق: الفشقة الكبرى (يحدها نهر سيتيت شمالا وبحر باسلام جنوبا ونهر عطبرة غربا)، والصغرى (يحدها شمالا بحر باسلام، وغربا نهر عطبرة، وشرقا الحدود مع إثيوبيا)، والثالثة هي المنطقة الجنوبية.

الاقتصاد

أغلب صادرات إثيوبيا من محاصيل زهرة الشمس والسمسم والذرة منتجة من نحو مليون فدان في أراضي الفشقة السودانية، وهناك مزارعون سودانيون يؤجرون أراضيهم لنظراء إثيوبيين، وهذه عادة جارية منذ سنوات طويلة.

هذا الاستئجار يكون عرفيا دائما، ولا يتبع السبل القانونية والرسمية، فيأتي المزارع الإثيوبي عبر (سمسار، وسيط) سوداني، ويستأجر أرض مساحتها آلاف الأفدنة، وغالبا ما يكون الاتفاق شفهيا بحضور شهود، ما يصعب على الحكومتين السودانية والإثيوبية محاكمة الفاعلين كونهما لا تمتلكان إثباتات رسمية على ذلك.

التاريخ

في عام 1891 بعث الإمبراطور الإثيوبي منليك الثاني رسالة إلى رؤساء الدول الأوروبية حدد فيها حدود إمبراطوريته حتى كركوج على النيل الأزرق بأواسط السودان، وفي عام 1902 تم توقيع معاهدة الحدود في ترسيم الحدود الإثيوبية السودانية بين حكومة إثيوبيا والإدارة الاستعمارية البريطانية في السودان، حيث نصت المعاهدة على إنشاء لجنة لترسيم الحدود المشتركة.

بعدها بعام قام الممثل البريطاني (الرائد جوين) من جانب واحد بعملية ترسيم الحدود من دون حضور ممثل إثيوبيا أو تفويض من الحكومة الإثيوبية، ونتيجة لذلك ظل ترسيم (الرائد جوين) متنازعا عليه وموضع خلاف، خاصة للمناطق الواقعة شمال جبل دجليش.

وفي عام 1957 استزرع 7 مزارعين إثيوبيين 3800 فدان في الفشقة، وفي الفترة بين عامي 1964 و1967، ارتفع العدد إلى 27 مزارعا، وزادت مساحة مزارعهم إلى 33 ألف فدان.

وبعد مرور عام قاد يهودي يدعى "كنفي" من الفلاشا التابعين لقومية الأمهرة أول هجوم على جبل أبو طيور، وسيطرت مليشياته على مساحة شاسعة في الفشقة الكبرى، بما فيها جبل أبو طيور، وفي العام التالي طردت قوة من الشرطة السودانية مليشيات "كنفي" بعد معركة شارك فيها الأهالي.

ومن أجل حل النزاع الحدودي، اتفقت حكومة إثيوبيا والسودان عام 1972، من خلال وزيري خارجية البلدين على الشروع في عملية إعادة الترسيم من جبل دجليش جنوبا، كما تم الاتفاق على دراسة المشكلة الناجمة عن الاستيطان والزراعة من قبل مواطني أي من الدولتين في أراضي الدولة الأخرى بهدف إيجاد حل ودي.

وبعد شهرين من توقيع المذكرات، وجهت حكومة السودان خطابا إلى رئيس منظمة الوحدة الأفريقية، تبلغه بأنه تم الاتفاق على تنظيم أطول حدود بين البلدين الأفريقيين، وأبلغت منظمة الوحدة الأفريقية إثيوبيا أن حكومة السودان قد صدّقت على هذا الاتفاق، وفقا للمادة 102 من ميثاق الأمم المتحدة.

إطار اتفاق 1972 نص على أن إيجاد حل ودي للمشكلة الناجمة عن الزراعة والاستيطان هو شرط أساسي لإعادة ترسيم خط جوين شمال جبل دجليش، وفور توقيع اتفاقية تفاهمات عام 1972، شكل كلا البلدين لجنة حدود مشتركة لإعادة ترسيم حدود جنوب جبل دجليش، لكن بسبب تغيير الحكومة عام 1974 في إثيوبيا لم يتحقق مشروع إعادة الترسيم المتفق عليه.

وفي الفترة بين 1972 و1991: ارتفع عدد المزارعين الإثيوبيين إلى 52 مزارعا في مساحة 84.5 ألف فدان، لكن بعد عام 1994، وصل عددهم إلى 1659 مزارعا في نحو مليون فدان بالتوغل داخل حدود السودان بأعماق متفاوتة بين 9 كيلومترات و24 كيلومترا.

ومنذ عام 1995، استغل مزارعون إثيوبيون -تحت حماية مليشيات مسلحة- نحو مليوني فدان من أراضي الفشقة شديدة الخصوبة، وشيدت السلطات الإثيوبية العديد من القرى هناك، وزوّدتها بالخدمات والبنى التحتية، بما فيها الطرق المعبّدة.

وفي عام 2000، قررت كل من إثيوبيا والسودان تنفيذ تفاهمات عام 1972 وإنشاء لجنة خاصة مشتركة مكلفة بإيجاد حل ودي للمشكلة الناجمة في منطقة شمال جبل دجليش، علاوة على ذلك، اتفق البلدان على إنشاء لجنة مشتركة خاصة لإعادة ترسيم خط الحدود بين البلدين، ورغم أن اللجنة عقدت 8 اجتماعات فإنها لم تكمل مهمتها الموكلة إليها بموجب اتفاق 1972 واختصاصاتها المعتمدة بالاتفاق.

وأثناء استمرار المفاوضات، وقع البلدان عام 2005، مذكرة تفاهم لوضع حل مؤقت لهذه المشكلة حتى يتم التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن الحل الودي الذي سيتفق عليه البلدان، وتعد المذكرة حلاً تكميليًّا ومؤقتًا لاتفاقية عام 1972 وليست بديلا عنها.

حصرت لجنة العمل الميداني المشتركة بين البلدين 754 ألف فدان استولى عليها مزارعون إثيوبيون، واستمر التوسع ليصل إلى نحو 895 ألف فدان من الأراضي الخصبة، وشهد شهر مارس/آذار 2020، توغلا سودانيا في الفشقة، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2020، بدأ الجيش السوداني بسط سيطرته على المناطق التي لم ينتشر فيها منذ ربع قرن تقريبًا معلنا موقفا جديدا، ومثيرا للجانب الإثيوبي.

وفي ديسمبر/كانون الأول 2020، اندلعت معارك بين الجانبين في جبل أبو طيور الإستراتيجي المطل على منطقتي الفشقة الصغرى والفشقة الكبرى، والذي استرده الجيش السوداني من القوات الإثيوبية، بعدها انطلقت مفاوضات بين الجانبين لكنها فشلت.

السبب الرئيسي في فشل المفاوضات يعود إلى تراجع الوفد الإثيوبي عن الاعتراف باتفاقية 1903 بين حكومة السودان وإمبراطورية إثيوبيا، والتى نصت على اعتماد خط قوين كأساس لتخطيط الحدود.

وبموجب اتفاقية 1903 انضمت "بني شنقول" السودانية لإثيوبيا ويقول السودانيون إنه من حقهم التراجع عن الاتفاقية لأن الإنجليز هم من وقعوها نيابة عنهم مع إثيوبيا، ويعتبرون أنه من حق الخرطوم المطالبة رسميا بـ"بني شنقول".

وحسب تصريحات عضو مجلس السيادة المتحدث باسمه محمد الفكي سليمان في 15 يناير/كانون الثاني 2021 فإن الجيش السوداني تمكن من استعادة نحو 90% من أراضي الفشقة، وتبقت منطقتان فقط هما "القطران" و"خور حُمر".

وتيرة الصراع بين البلدين تصاعدت في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، عندما اتهمت الخرطوم أديس أبابا بقتل 6 من جنودها، وإصابة أكثر من 31 من الضباط والجنود، وهو ما تكرر في 26 يونيو/حزيران 2022، حينما اتهم الجيش السوداني نظيره الإثيوبي بإعدام 7 جنود سودانيين ومدني كانوا أسرى لديه، وهو ما نفته أديس أبابا.

العرقية الأمهرية

تعتقد العرقية الأمهرية الإثيوبية اعتقادًا راسخًا بانتماء أراضي هذه المناطق الحدودية إليها تاريخيا، ولا يرى أبناء الشعب الأمهري أن من حق أحد، سواء كان الإمبراطور منليك الثاني عام 1902 أو حتى رئيس الوزراء ميليس زيناوي عام 1996، أن يتخلى عن السيادة الإثيوبية عليها.

واستمرت هجمات الإثيوبيين على قرى الشريط الحدودي لنحو 60 عاما، خاصة خلال الصيف وبالتزامن مع عمليات الحصاد، مما أدى إلى مقتل العديد من المزارعين والعمال ووكلاء المشاريع الزراعية والسائقين، إلى جانب نهب المحاصيل والماشية والآليات.

عصابات "الشيفتا"

وبخلاف المعارضة الإثيوبية المحسوبة على "جبهة تحرير تيغراي"، والجيش الإثيوبي نفسه، تنشط في أراضي الفشقة ما تعرف "بعصابات الشيفتا"، وهي مجموعات منظمة ترعاها الدولة الإثيوبية، وتمول من قبل كبار المزارعين هناك، وتتلقى التدريب والتسليح من الجيش النظامي رغم أنها غير نظامية.

نشأت "مليشيات الشيفتا" في خمسينيات القرن الماضي كعصابات صغيرة من عرقية تُعرف باسم الولغاييت بغرض النهب، وفي منتصف التسعينيات تحولت إلى مليشيات كبيرة ومنظمة معظمها من عرقية الأمهرة، وامتلكت أسلحة رشاشة وآلية ومدفعية، وشنت هجمات منظمة على الأراضي السودانية تمكنت خلالها من تفريغ كامل (شرق) نهر عطبرة من الوجود السكاني السوداني.

وفي ستينيات القرن الماضي أقنع حكمدار البوليس سيد أحمد حسين الحكومة الاتحادية في الخرطوم بتسليح المزارعين والرعاة السودانيين في الفشقة للتصدي لاعتداءات الشيفتا.

التشكيل الذي تمارس به "مليشيات الشيفتا" هجماتها يعرف محليا في ولاية القضارف السودانية بـ"البلابل" -وهي تسمية مستمدة من 3 شقيقات سودانيات يغنين بشكل جماعي- وتتكون العصابة الواحدة من 3 رجال، الأول مسلح ببندقية كلاشينكوف، والثاني بفأس، والثالث بعصا.

وفي السنوات الأخيرة باتت تلك المليشيات تمارس خطف المواطنين داخل الحدود السودانية مقابل فديات، كما قتلت وأعدمت العديد من المواطنين السودانيين، فيما تحظى المليشيات الإثيوبية باعتراف الحكومة الاتحادية في أديس أبابا.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية