الذكاء الاصطناعي.. حينما تفكر الآلة
الذكاء الاصطناعي تعبير يطلق على القدرات التي تبديها الآلات والبرامج، بما يحاكي القدرات الذهنية للبشر، مثل التعلم والاستنتاج ورد الفعل على أوضاع لم تبرمج في الآلة، كما أنه اسم لحقل أكاديمي معني بكيفية صنع حواسيب وبرامج قادرة على اتخاذ سلوك ذكي.
وهو سِمة العصر الحديث البارزة، طوَّره الإنسان لخدمته في إنجاز مهماته بدقة كبيرة وسرعة عالية وموثوقية رصينة.
ورافقت هذا الإنجاز تحدياتٌ اقتصادية سببت فجوة هائلة في توزيع الثروة بين الدول المتقدمة والنامية، وبين الأفراد أنفسهم في البلد الواحد، وصار تهديدا كبيرا لعدد من الوظائف.
أصل التسمية
يعود طرح مصطلح الذكاء الاصطناعي إلى عالم الحاسوب الأميركي جون مكارثي (1927-2011) الذي صاغه عام 1956، وهو العام الذي شهد انعقاد مؤتمر علمي في كلية دارتموث الأميركية للإشارة للأبحاث الجارية آنذاك حول إمكانية تصميم آلة ذكية قادرة على تقليد ومحاكاة عمل البشر.
وتم الإعلان في ذلك المؤتمر عن حملات لجمع تبرعات مالية لدعم الأبحاث من أجل الوصول إلى اختراع يشبه العقل البشري يمكّن الآلات من العمل بمفردها دون الحاجة للإنسان.
قفزات كبيرة
يعرَّف الذكاء الاصطناعي بأنه البناء المنطقي للبرمجيات والخوارزميات والشبكات العصبية، التي تمكِّن الآلات المحوسبة من محاكاة الذكاء البشري في التعلم واتخاذ القرارات وحل المشكلات والتنبؤ بالنتائج، والتوصيات والمفاضلة بين الخيارات لتحقيق أهداف محددة.
وشكل تطور لغات البرمجة والإعلام الآلي حافزا للمضي قدما في تعزيز الذكاء الاصطناعي لدرجة أنه أصبح علما قائما بذاته، يجمع بين العديد من العلوم الأخرى كالبرمجة والمنطق والرياضيات وحتى علم النفس والفلسفة.
حقق التطور في تقنية الذكاء الاصطناعي قفزات كبيرة، وتعد تقنية "التعلم العميق" أبرز مظاهره، وهي ترتكز على تطوير شبكات عصبية صناعية تحاكي في طريقة عملها أسلوب الدماغ البشري، أي أنها قادرة على التجريب والتعلم وتطوير نفسها ذاتيا دون تدخل الإنسان.
مجالات وتطبيقات
يعتمد الذكاء الاصطناعي على أنظمة التعرف على الوجوه والأصوات والأشكال، مما جعل استخدامه واسع الانتشار في الحياة اليومية وفي الكثير من المجالات المختلفة. إذ يستخدم في الصناعة والتحكم الآلي والنظم الخبيرة والطب والأحياء والتعليم وحتى الألعاب.
وفي مجال الطب توجد برامج لتشخيص الأمراض بناء على أعراض معروفة مع استخدام المنطق والاحتمالات والاستدلال لكي يكون الخبير الآلي مالكا لمهارات مقاربة للعنصر البشري.
وفي المجال اللغوي تم استعمال الأنظمة الذكية في التدقيق اللغوي والصرف والنحو ومخاطبة الناس، لكن ورغم أن الترجمة الآلية أحرزت تقدما كبيرا في الوقت الحالي، فإنها لم تصل للجودة نفسها التي يقدمها المترجم البشري، وعجزت معظم البرامج عن الوصول إلى ذلك بالنظر لعدم قدرتها على فهم سياق الكلام.
ويستطيع الذكاء الاصطناعي التعرف على الكلام، وتحويله إلى نص مكتوب، ويستمع للمتحدث ويطبق ما سمع ويجيب أيضا، ويولّد الرسائل الصوتية من النصوص المكتوبة.
أما في مجال ألعاب الفيديو فقد أحدث الذكاء الاصطناعي انقلابا كبيرا فيه من خلال الوصول للمزيد من الإثارة والتشويق ومقابلة خصم أكثر ذكاء مما كان من قبل، وتتيح الأنظمة التي تشغل ألعاب الفيديو قدرا أكبر من المحاكاة، فتصّرف أفراد اللعبة أصبح ذاتيا ومختلفا وفق الظروف سواء في ألعاب القتال أو مباريات كرة القدم أو غيرها.
وفي مجال الأعمال الرقمية فهو قادر على خدمة الزبائن، عبر إرشادهم إلى السلع الأكثر ملاءمة، والإجابة عن الأسئلة الخاصة بعمليات الشحن وطرق الدفع، وتسريع مدة الاستجابة لطلبات الزبائن، واقتراح الألوان والقياسات تبعا لذوق الزبون.
وفي مجال الرؤية الحاسوبية، يتيح الذكاء الاصطناعي التصوير العلاجي الإشعاعي، والقيادة الذاتية للمركبات، وإجراء مسوح لأعماق المحيطات وطبقات الفضاء المختلفة.
أما في التنبؤات الجوية، فتعتمد هيئات البث على إدخال نماذج الطقس إلى حواسيب عملاقة، تعتمد خوارزميات معقدة، لتوليد تنبؤات أكثر دقة، تساعد صانع القرار على اتخاذ إجراءات أكثر صوابا.
ويمكن لنماذج الذكاء الاصطناعي تمشيط كميات كبيرة من البيانات واكتشاف نقاط البيانات غير النمطية "غير المتَّسقة" والكشف عن الحالات الشاذة، والتعريف بالمعدات المعيبة والأخطاء البشرية فيها، أو الانتهاكات الأمنية والتهديدات السيبرانية.
وانتشر الرجل الآلي -وهو أحد تجسيدات الذكاء الاصطناعي- في العديد من المجالات، خاصة الصناعية، وعوّض اليد العاملة البشرية، واستعمل أيضا في التجارب والأعمال الخطيرة التي لا يمكن للبشر القيام بها.
وتستخدم الروبوتات في الصناعة وقيادة الطائرات والمركبات الفضائية، كما تستخدم في المجال العسكري والقتال وأعمال التجسس والمراقبة والحراسة والأمن. وفي مجال الطب ابتكرت بعض الروبوتات التي تشخص الأمراض وتجري عمليات جراحية دقيقة جدا مثل جراحة العيون.
وثمة روبوتات تساعد على القيام بأعمال المنزل، من مكانس ذكية وغيرها، ويعتقد الكثير من العلماء أن مستقبل الذكاء الاصطناعي سيكون موجها نحو الاستخدام اليومي لتسهيل حياة الناس، كما أن تطور الوعي الاصطناعي سيجعل من الروبوتات أكثر تفاعلا وارتباطا بالإنسان.
لمحة تاريخية
ظهر أول مفهوم للآلة "التي تفكر" في كتابات اليونانيين القدماء. واستخدم الأدباء وصانعو السينما "ذكاء الآلة" في روايات وأفلام الخيال العلمي وعلوم المستقبل.
وبدأت ملامحها تبرز في العصر الحديث، عندما نشر آلان تورينغ ورقة بحثية عام 1950 بعنوان "آلات الحوسبة والذكاء"، وسأل "هل تستطيع الآلات التفكير؟" ثم قدّم "اختبار تورينغ"، وحاول فيه التمييزَ بين استجابة الكمبيوتر والنص البشري.
وفي عام 1956 صاغ جون مكارثي مصطلح "الذكاء الاصطناعي" في أول مؤتمر للذكاء الاصطناعي على الإطلاق في كلية دارتموث. وفي العام نفسه أنشأ ألين نيويل وجي سي شو وهيربرت سيمون برنامج "لوجيك ثيوريست"، وهو أول برنامج ذكاء اصطناعي.
وفي عام 1967 صنع فرانك روزنبلات آلة "مارك آي بيرسبترون"، وهو أول كمبيوتر يعتمد على شبكة عصبية "تتعلم" من خلال التجربة والخطأ.
وبعد عام واحد نشر مارفن مينسكي وسيمور بابيرت كتابا بعنوان "بيرسبترون"، وأصبح عملا بارزا حول الإدراك الحسي، أحد أنواع الشبكات الاصطناعية التي طورت في أوائل الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.
وفي الثمانينيات أصبحت الشبكات العصبية تستخدم خوارزمية الانتشار العكسي "لتدريب" نفسها، واستُخدِمت على نطاق واسع في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وهي عنصر أساسي في التعلم العميق.
ونشر ستيوارت راسل وبيتر نورفيج عام 1995 كتاب "الذكاء الاصطناعي.. نهج حديث"، وأصبح أحد الكتب المدرسية الرائدة في المجال.
وفيما بعد تغلب جهاز "ديب بلو" من شركة "آي بي إم" على بطل العالم غاري كاسباروف، في مباراة للشطرنج عام 1997، ونشر جون مكارثي ورقة بحثية بعنوان "ما الذكاء الاصطناعي؟" عام 2004، واقترح فيها تعريفا له بأنه "علم وهندسة صنع آلات ذكية".
وفي عام 2011 تغلّب الحاسوب "واستون" من شركة "آي بي إم" على البطلين كين جينينغز وبراد روتر في برنامج المسابقات التلفزي "جيوباردي" الذي كان يقدمه ميرف غريفن على قناة "سي بي أس" الأميركية.
عام 2015 استخدم حاسوب "مينوا" العملاق من شركة "بايدو" نوعا خاصا من "الشبكة العصبية العميقة" تسمى "الشبكة العصبية التلافيفية" (تشتهر باسم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي) وتستخدم التعلم العميق لتحديد وتصنيف الصور بمعدل دقة أعلى من الإنسان العادي.
عام 2016 تفوَّق برنامج الذكاء الصناعي "ألفا غو"، الذي صنعته شركة "ديب مايند" -التابعة لـ"غوغل"- على اللاعب الكوري الجنوبي لي سيدول، المحترف في لعبة "غو" الآسيوية التقليدية، في مباراة من 5 مراحل.
وتشتهر هذه اللعبة القديمة بتعقيدها، إذ تعتمد على الإستراتيجية والحدس وتحتمل كثيرا من الاحتمالات، واعتقد كثيرون في المجال أنه لا يمكن لآلة التفوق فيها.
وتمت برجمة "ألفا غو" بملايين الحركات لأساتذة اللعبة السابقين، فكان بإمكانه التنبؤ بفرصه بالفوز وتعديل خطة اللعب بناء على ذلك، ثم أطلق فريق "ديب مايند" برنامجا آخر سماه "ألفاغو زيرو"، ولم يمنحه أية تعليمات إضافية، ومع ذلك استطاع تعليم نفسه من خلال اللعب ضد نفسه.
وفي غضون ثلاثة أيام، تمكن "ألفاغو زيرو" من هزيمة كل نسخ ألفاغو، وفي غضون 40 يوما تمكن بشكل مستقل من اكتشاف مبادئ اللعبة التي تطلبت من البشرية آلاف السنوات لاكتشافها. كما طوّر الحاسوب إستراتيجيات جديدة خاصة به.
ثم بدأ الذكاء الاصطناعي يدخل في الحياة العامة للناس، فاستعمل في مكانس كهربائية ذكية وأجهزة طهي، وفي السيارات الحديثة ذاتية القيادة، وفي الساعات الذكية والهواتف الحديثة وما تحتويه من "مساعد صوتي" مثل "سيري" في أجهزة الآيفون و"بكسبي" لمستخدمي سامسونغ.
وأدى إطلاق برنامج "شات جي بي تي" عام 2022 إلى إحداث تغيير هائل في أداء الذكاء الاصطناعي وقدراته التوليدية الجديدة، فصار يحاكي البشر ويقدم معلومات بناء على قاعدة بيانات كبيرة، واستطاع عمل مهن وبمهارات كانت طوال الزمن خاصة بالبشر.
ولم تقف حدود الذكاء الاصطناعي عند هذا الحد، بل أصبح يولد صورا وفيديوهات ونصوصا صوتية مقروءة بأشكال وأصوات مختلفة حسب المعطيات التي تطلب منه، وبات يستخدم لإنتاج أعمال كاملة كانت تتطلب عمل شهور خلال وقت قصير، فبات يهدد بزوال مهن كثيرة.
طموح وتحذير
لا يتوقف طموح العلماء والباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي عند حد، ويبلغ ذروته عند من يتحدثون عن إمكانية تصنيع عقل ذي ذكاء خارق يفوق القدرة البشرية، ويتحدثون أيضا عن الوعي أو الشعور الاصطناعي.
وفي غمرة السعادة بما تحقق والتطلع لما سوف يتحقق في هذا المجال، يحذر فريق من العلماء من أن ذلك قد يعني سيطرة الآلات واختفاء دور البشر، وقال عالم فيزياء الفلك البريطاني ستفين هوكينغ إن الذكاء الاصطناعي الكامل بمعنى ابتكار أجهزة حاسوب تمتلك عقولا خاصة بها "يمكن أن يؤذن بنهاية الجنس البشري".
ويعتبر مؤسس شركة "تيسلا" لإنتاج السيارات الكهربائية إيلون موسك الذكاء الاصطناعي "أكبر تهديد يواجه وجودنا نحن البشر"، وشبّه الآلات التي تفكر بـ"الأسلحة النووية" وبـ"الشيطان".
وأجرى الفيلسوف السويدي نيك بوستروم، الذي يعمل بجامعة أوكسفورد، استطلاعا للرأي بين مجموعة من خبراء الذكاء الاصطناعي حول الموعد الذي يثقون أن العلم سيحقق فيه مستوى رفيعا من ذكاء الآلات.
وأعرب هؤلاء العلماء عن اعتقادهم بأن ذلك سيتحقق في المتوسط عام 2075، وبعد 30 عاما من ذلك يمكن ابتكار الآلات ذات الذكاء الفائق، التي يمكن أن تتفوق على تفكير الإنسان، وقال 21% ممن شملهم الاستطلاع إن ذلك لن يتحقق على الإطلاق.
أما أستاذ علم الحاسوب بجامعة مونتريال الكندية يوشوا بينغيو فيرى أنه لا ينبغي القلق من التقنيات الذكية، فهي تحتاج لسنوات كثيرة من التطور البطيء والتدريجي قبل أن تصل إلى المدى الذي يمكن الخشية منه، لأنها تستند في تطورها إلى علوم وأفكار لا تزال في بداياتها.
التحديات الأخلاقية
تبقى الآلات صناعة بشرية، قد تتأثر بخلفية البشر الدينية والثقافية والأخلاقية، لذلك تلزم الكثير من المؤسسات والدول مطوري هذا المجال بمراعاة مبادئ عدة للحفاظ على التوازن بين القفزات التقنية الواسعة والحقوق الأساسية للمستخدمين، ومنها:
- النزاهة والإنصاف، لمنع أي تحيز أو تمييز بين الأفراد والجماعات والفئات، وقد وقعت فيه عدة برامج محادثة ذكية عند سؤالها عن قضايا سياسية ودينية سببت غضبا لمستخدميها، لذلك بدأ مطورو البرامج بتعليمها رفض الإجابة عن القضايا الحساسة والرد بـ"ما زلت أتعلم كيفية الإجابة عن هذا السؤال".
- الخصوصية والأمان، عبر حماية خصوصية البيانات الشخصية، ومعايير الأمن السيبراني، بهدف منع الوصول غير المشروع إلى البيانات، مما قد يؤدي إلى الإضرار بالسمعة أو الأضرار النفسية أو المالية أو المهنية.
- الإنسانية، إذ يفترض أن تبنى أنظمة الذكاء الاصطناعي بمنهجية عادلة وأخلاقية تستند إلى حقوق الإنسان والقيم الثقافية الأساسية. ويجب تصميم الأنظمة بحيث لا تخدع أو تتلاعب أو تضع سلوكا لا يقصد به تمكين المهارات البشرية وتعزيزها.
- المنافع الاجتماعية والبيئية، وذلك بتعزيز الأثر الإيجابي والمفيد للأولويات الاجتماعية والبيئية لفائدة الأفراد والمجتمع ككل، ولا تتسبب بضرر يطال الأفراد والمجتمعات.
- الموثوقية والسلامة، وذلك بضمان التزام نظام الذكاء الصناعي بالمواصفات المحددة، والعمل وفق الآلية التي كان يقصدها مصمموه، لا بأهداف خفية.
- الشفافية والقابلية للتفسير، وذلك ببناء أنظمة الذكاء الصناعي بدرجة عالية من الوضوح والقابلية للتفسير، مع وجود ميزات لتتبع مراحل اتخاذ القرارات المؤتمتة، ولا سيما تلك التي قد تؤدي إلى آثار ضارة على الأفراد.
- المساءلة والمسؤولية، بحيث يتحمل المصممون والمطورون ومسؤولو أنظمة الذكاء الصناعي المسؤولية الأخلاقية عن القرارات والإجراءات التي قد تؤدي إلى مخاطر محتملة وآثار سلبية على الأفراد والمجتمعات.
- ويجب تطبيق الإشراف البشري والحوكمة والإدارة المناسبة عبر دورة حياة نظام الذكاء الصناعي بأكملها لضمان وجود آليات مناسبة لتجنب الأضرار وعدم إساءة استخدام هذه التقنية.
- وينبغي ألا تؤدي أنظمة الذكاء الاصطناعي إلى خداع الناس أو الإضرار بحرية اختيارهم دون مبرر، وأن يكون المصممون والمطورون والأشخاص الذين ينفذون نظام الذكاء الصناعي مذكورين ويمكن لمن يريد التواصل معهم.