مصر.. أزمة اقتصادية مستمرة ومتضخمة كيف ذلك؟

الاحتياطي الدولاري كان اول ضحايا التفريعة واضطر الحكومة للتعويم فتأثرت معيشة المصريين سلباً. (تصوير خاص للبنك المركزي وللدولار مع الجنيه ـ أرشيف)
الحكومة المصرية تنفي أن يحمل اللجوء إلى صندوق النقد أي أعباء جديدة على المواطنين (الجزيرة)

القاهرة– يعيش المصريون أجواء اقتصادية أشبه بتلك التي صاحبت تعويم الجنيه نهاية عام 2016، ووصفتها الحكومة حينها "بالدواء المر" من أجل التعافي من آثار السياسات الاقتصادية الخاطئة على مدار عقود مضت، وانخفض الجنيه حينها إلى مستويات قياسية فاقدا أكثر من 50% من قيمته وهبطت معه قيمة مدخرات المصريين، وارتفعت الأسعار بقوة، وقفز التضخم إلى مستويات قياسية.

في الوقت الذي كان ينتظر فيه المصريون انتهاء مشوار الإصلاح الاقتصادي وبرنامج صندوق النقد الدولي بعد تجرع "الدواء المر" طوعا وكرها، وجني ثمار الصبر والمثابرة، وجدوا أنفسهم أمام أزمة اقتصادية جديدة لكن تبدو ملامحها هذه المرة أكثر قتامة، ووطأتها أكثر شدة بعد قرار الحكومة المصرية، قبل أيام، خفض قيمة الجنيه أكثر من 17% ورفع معدلات الفائدة 1% واللجوء إلى صندوق النقد الدولي مجددا، حسب مراقبين.

تنفي الحكومة أن يحمل اللجوء إلى صندوق النقد أي أعباء جديدة على المواطنين، إذ قال رئيس الوزراء مصطفى مدبولي نهاية مارس/آذار الماضي "إن المواطن لن يتحمل أي أعباء مالية من التعاون الجديد مع صندوق النقد"، لكنه لم يستبعد حدوث السيناريو الأسوأ، متابعا: "نضع السيناريو الأسوأ لأي أزمة، خصوصا أزمة الحرب الروسية الأوكرانية".

الأسوأ في العقود الأخيرة

يرى مراقبون وخبراء في مجال الاقتصاد والحوكمة -في حديثهم للجزيرة نت- أن الأزمة هذه المرة مختلفة عن سابقاتها فهي مركبة ومضاعفة؛ لأنها داخلية وخارجية، وسوف تُطبِقْ بقوة على الاقتصاد المصري الهش الذي يعاني آثار جائحة كورونا وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، ويُعتَقَدْ أنها الأسوأ منذ عقود.

هؤلاء الخبراء أشاروا إلى أن إجراءات الحكومة المصرية الأخيرة ليست سوى البداية في سلسلة إجراءات اقتصادية طويلة ستترتب عليها نتائج قاسية، مثل حدوث موجة تضخمية، وزيادة معدلات الفائدة مجددا، واستمرار ارتفاع الأسعار إلى جانب ما سوف تقتضيه مطالب صندوق النقد الدولي.

ولا يلوح في الأفق موعدا لانتهاء الأزمة، وهو ما أشار إليه الرئيس عبد الفتاح السيسي من أن الأزمة الحالية قد تطول، فقال الثلاثاء الماضي -مخاطبا المحافظين عبر تقنية الفيديو كونفرانس- "يا جماعة الأزمة الموجودة حاليا قد تطول شوية (قليلا)، معنى هذا أن آثارها سوف تكون معنا، ولا بد أن نكون قادرين على رؤية ذلك والتعامل معه وليس مجرد ضبط الأسعار الآن فقط، لا بد أن يكون لدينا تصور لاستقرار الوضع مستقبلا لأنه عبء على الناس".

ويرى الصحفي المهتم بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، رمضان السنوسي، أن البنك المركزي بطريقة أو بأخرى، كرر سيناريو 2016 المؤلم، حين أعلن تعويم الجنيه، بوصفه بندا أوليا على أجندة برنامج "إصلاح اقتصادي".

وألجأت الأزمة الاقتصادية الحالية، حسب مقال للسنوسي، الحكومة المصرية إلى السير في اتجاهين موازيين؛ الأول يتعلق بمراجعة منظومة الدعم وتوسيع القاعدة الضريبية، والثاني يطبق الشعار الجديد الذي رفعه وزير المالية محمد معيط "تعظيم الاستفادة من أصول الدولة" من خلال التوسع في بيع أصول الدولة.

المأزق والمخرج

هي أزمة اقتصادية مركبة بالفعل، هكذا يراها استشاري نظم الحوكمة والتطوير المؤسسي الدكتور سمير الوسيمي، مشيرا إلى أنها "أزمة إدارة وسياسات عامة بالدرجة الأولى، فالدولة تدار عبر مركزية عسكرية شديدة التعقيد، بل ويغيب عن مشهدها الاقتصادي تحديدا عنصري التخصص والاحتراف في ضوء سياسات أهم ما تحتاج إليه هو الوضوح والإبداع".

وأضاف الوسيمي، وهو أستاذ مشارك في الإدارة الإستراتيجية، في حديثه للجزيرة نت، أن مصر تحتاج إلى إبداع في الحلول في ظل المأزق الداخلي والخارجي الذي تعيشه، مؤكدا أن الجنوح أكثر في اتجاه الاقتصاد الريعي أو مشروعات الجباية التي تقوم على مزيد من فرض الضرائب على الشعب لن يؤدي إلى حل الأزمة.

ويعتقد أنه كان ينبغي على السلطة في مصر أن تتجه أكثر نحو الاقتصاد الإنتاجي وأن تتوقف عن تحميل البلد بمزيد من الديون التي تأكل أغلب دخلها القومي وتؤثر بالسلب على استقلالية البلاد اقتصاديا.

إضافة إلى ما سبق، يرى الوسيمي أن السياسة والاقتصاد مرتبطين ارتباطا كليا ببعضهما بعضا؛ وبالتالي فإن حلحلة الوضع السياسي المعقد والمغلق تماما في مصر من شأنه أن يصنع بيئة داعمة لتطوير الحالة الاقتصادية، وفق سياسات جديدة يجب أن تدخل على الخط مع تمكين القطاع الاستثماري الخاص وجلب استثمارات جديدة وليس تخويف المستثمرين كما يحدث على مدار السنوات السابقة.

وشهد سوق أدوات الدين خروج أكثر من 15 مليار دولار، حسب العديد من التقارير الاقتصادية، فضلا عن تراجع صافي الأصول الأجنبية بشكل حاد في فبراير/شباط الماضي، للشهر الخامس على التوالي، إذ انخفض بمقدار 60 مليار جنيه، ليتحول إلى سالب 50.3 مليار جنيه، (الدولار يعادل 18.40 جنيها)، نتيجة تخارج المستثمرين الأجانب المكثف من أدوات الدين الحكومية في مصر.

ورغم قيام السعودية بإيداع 5 مليارات دولار لدى البنك المركزي المصري، ليرتفع إجمالي الودائع السعودية إلى 10.3 مليارات دولار، فإنها ليست كافية حسب تصريحات صحفية لطارق متولي، نائب رئيس بنك بلوم مصر سابقا، الذي يرى أن المساعدات يجب ألا تقل عن 20 مليار دولار، ولكنها قد تخفف من ضغط الطلب على الدولار.

الاقتصاد بين فكي الاقتراض والبيع

يصف مدير المركز الدولي للدراسات التنموية، الباحث في الاقتصاد السياسي مصطفى يوسف، المشكلة الحالية التي يواجهها الاقتصاد المصري بأنها الأخطر بسبب ارتفاع حجم الديون بشكل غير مسبوق وإهدارها في مشروعات عديمة الجدوى الاقتصادية والاجتماعية وفي دفع فوائدها وبالتالي استمر نزيف خفض قيمة الجنيه، مما أدى إلى زيادة معدلات الفقر وتآكل الطبقة الوسطى.

وأضاف -للجزيرة نت- أنه بعد التعويم الأول في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 والحصول على قرض قيمته 12 مليار دولار من صندوق النقد، أصبح الاقتراض "بلا حسيب ولا رقيب وعلى مصراعيه"، كما زاد الإنفاق على مشروعات غير إنتاجية معروفة للجميع، إلى جانب عزوف الشركات والمستثمرين الأجانب عن الاستثمار المباشر في مصر لغياب الشفافية والديمقراطية وسيادة القانون حيث تحتل مرتبة متدنية جدا في هذه المؤشرات، وفق تعبيره.

وأعرب يوسف عن تخوفه من أن تواجه مصر شبح التوقف عن سداد قيمة القروض عندما يحل آجالها؛ لأن "الكلفة الكبيرة للفساد ورأسمالية المحاسيب" التي تسيطر على مفاصل الاقتصاد دمرت حرفيا القطاع الخاص الوطني ودفعت بعشرات الملايين من المصريين من الطبقة الوسطى للطبقة الفقيرة وما تحت خط الفقر، على حد قوله.

وأكد أن "بيع الأصول الرابحة لمشترين إماراتيين وسعوديين هو محاولة لشراء بعض الوقت قبل الانزلاق إلى الهاوية، وأن استمرار الحرب الروسية الأوكرانية لن تتحمل تداعياتها الاقتصادات الهشة والتابعة، مثل الاقتصاد المصري الذي تتخطفه الأزمة داخليا وخارجيا"، وفق تعبيره.

أكبر مُصدِر للديون السيادية

ستصبح مصر أكبر مُصدِر للديون السيادية بين الأسواق الناشئة في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا، بإصدارات تبلغ 73 مليار دولار خلال العام الحالي، مقابل 63 مليار دولار العام الماضي من خلال إصداراتها من السندات، حسب توقعات مؤسسة "ستاندرد آند بورز" (S&P) المالية.

ورفع الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي الأميركي) لأول مرة منذ 2018، الفائدة على الدولار الشهر الماضي بمقدار ربع نقطة مئوية لتصبح 0.5%، في إطار خطته لزيادتها إلى 2% نهاية العام الجاري ثم إلى 2.75% في 2023، وأتبعها البنك المركزي المصري برفع الفائدة على الجنيه 1%، ضمن سلسلة قادمة من الزيادات أيضا.

وقفز التضخم السنوي لإجمالي البلاد مارس/آذار الماضي إلى 12.1%، مقابل 4.8% للشهر ذاته من العام السابق، كما ارتفعت أسعار المستهلكين لإجمالي البلاد مارس/آذار الماضي على أساس شهري بـ2.4%، وفق الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري.

ومن المتوقع أن تصل معدلات التضخم ذروتها الصيف المقبل، ويستمر رفع أسعار الفائدة بنسبة تتراوح بين 1% و3% حتى نهاية العام الجاري، حسب مذكرة بحثية نشرتها منى بدير كبيرة الاقتصاديين بشركة برايم لتداول الأوراق المالية.

ويلخص رئيس أبحاث الشرق الأوسط للخدمات المصرفية الخاصة في مجموعة "كريدي سويس" (Credit Suisse) ومقره دبي، فهد إقبال، الأزمة التي يمر بها الاقتصاد المصري بالقول "إن تحرك البنك المركزي يشير إلى أن الظروف في مصر أسوأ مما توقعنا، ولا يمكننا استبعاد خطر مزيد من خفض قيمة العملة في مرحلة لاحقة".

المصدر : الجزيرة