صفقات ما بعد الحرب الأهلية.. كيف يهدد الفساد بملف الكهرباء اللبنانيين بالعتمة الشاملة؟

لبنان يخسر سنويا نحو 200 مليون دولار كلفة اقتصادية واجتماعية وبيئية بسبب انقطاع الكهرباء والمعامل التي تشغّل من دون شروط بيئية.

لبنان يولد معظم الطاقة الكهربائية عبر 7 معامل حرارية تم تشييدها تباعا قبل عام 2000 (الفرنسية)

بيروت – يختزل ملف الكهرباء تركيبة الفساد في لبنان، وفق كثيرين، التي دمرت البلاد بالصفقات المشبوهة، فصار شبح العتمة رفيق درب اللبنانيين، على مدار أكثر من 30 عاما بعد انتهاء الحرب الأهلية وتوقيع اتفاق الطائف عام 1989، دون أن تفضي الوعود لحل أزمة الكهرباء وتحسين خدمتها.

وخلال هذه الفترة، شاركت كل الأحزاب السياسية بالحكومات المتعاقبة، وتولى حقيبة الطاقة والمياه 16 وزيرا، من قوى بارزة، وفي طليعتها التيار الوطني الحر (برئاسة جبران باسيل) الذي أدار فريقه وزارة الطاقة على مدار 12 عاما، أي أن الجميع كان، على الأقل، شاهدا على خفايا ملف الكهرباء، الذي راكم مديونية لبنان.

الوعود والعتمة

وفي السنوات الفائتة، تم تقديم أكثر من 10 مشاريع لإصلاح الكهرباء، إلى جانب مناقصات استقدام البواخر كحل عملي ومؤقت إلى حين تنفيذ المشاريع التي يضم بعضها إنشاء معامل حديثة للطاقة المتجددة.

ومنذ السبعينيات، يعتمد لبنان على المحطات الحرارية لإنتاج الطاقة الكهربائية، والتي تستخدم المحروقات مثل "الفيول أويل" أو "الديزل أويل" أو "الغاز أويل" عبر استيرادها.

وهكذا، يولد لبنان معظم الطاقة الكهربائية عبر 7 معامل حرارية تم تشييدها تباعا قبل عام 2000: معمل الجية (عام 1970)، معمل الذوق (عام 1984)، معمل صور (عام 1996)، معمل بعلبك (عام 1996)، معمل الحريشة (عام 1996)، معمل الزهراني (عام 1998)، معمل دير عمار (عام 1998).

وبعد حقبة من عدم إقرار خطة حل مستدام، بلغت أخيرا أزمة الكهرباء ذروتها، ويعيش اللبنانيون عتمة شبه كاملة مع ارتفاع ساعات التقنين يوميا لنحو 20 ساعة ببعض المناطق، بسبب نقص مادة الفيول لدى مؤسسة كهرباء لبنان، ويأتي ذلك على وقع انهيار تاريخي يهدد البلاد بشح المواد الاساسية، وفي طليعتها المحروقات والدواء، مع اقتراب رفع الدعم عن الاستيراد الذي توفره الحكومة عبر المصرف المركزي، بسبب استنفاد احتياطي الدولار القابل للاستعمال، في وقت تواصل العملة الوطنية (الليرة) انهيارها متخطية حاجز 15 ألف ليرة مقابل الدولار بالسوق السوداء (سعر الصرف الرسمي 1507 ليرات).

وآخر الحلول التي شكلت تأجيلا مؤقتا للعتمة الشاملة، لنحو شهرين كحد أقصى، كانت بالموافقة الاستثنائية التي أصدرها رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، قبل أيام، لتغطية سلفة الخزينة لمؤسسة الكهرباء لشراء المحروقات، وهو ما اعتبره اقتصاديون ضغطا إضافيا على ما بقي من دولارات قيد الاستعمال. فكيف يتجلى الانقسام حول حقيقة أزمة الكهرباء في هذا البلد؟

اللبنانيون يعيشون عتمة شبه كاملة مع ارتفاع ساعات التقنين يوميا لنحو 20 ساعة ببعض المناطق (وكالة الأنباء الأوروبية)

الانقسام حول حقيقة الأزمة

تربط مديرة عام النفط بوزارة الطاقة والمياه، أورور فغالي (المقربة من التيار الوطني الحر) أزمة الكهرباء بالتعرفة، البالغة 8 سنتات على الكيلووات، وصارت قيمتها بعد انهيار الليرة أقل من نصف سنت.

وترفض فغالي تحميل وزارتها مسؤولية حرمان المواطنين من الكهرباء، لأنها منذ سنوات تقدم عروضا قائمة على إنشاء معامل للطاقة المتجددة، مثل دير عمار-2 والزهراني-2، وتحتاج لتمويل ولكن لم تحظَ بموافقة مجلس الوزراء.

ولو تركوا كهرباء لبنان أن توازي بين سعر التعرفة وسعر الكلفة، وفق حديث فغالي للجزيرة نت، لما راكمت مديونيتها، والسبب هو السياسة التي فرضت على منع رفع تعرفتها منذ عام 1994، في وقت الليرة تفقد قيمتها، وحينها كان سعر برميل النفط بنحو 22 دولارا، ويبلغ حاليا نحو 72 دولارا، لذا فإن تثبيت السعر غير منطقي بعالم الاقتصاد.

بالمقابل، يربط خبراء مشكلة الكهرباء بتقادم المعامل التي تتكبد كلفة عالية لإنتاج الكهرباء، وتبلغ أكثر من 20 سنتا للكيلوات بالساعة، في حين يمكن للمعامل الجديدة أن تنتج بأقل من 3 سنتات، أي أن كهرباء لبنان تنتج بكلفة تعادل 4 أضعاف الكلفة الطبيعية.

وتبرر فغالي ارتفاع الكلفة باستيراد المشتقات النفطية والوقود الثقيل لإنتاج الكهرباء، وهو باهظ الثمن ولا تستعمله عادة إلا الدول المنتجة للنفط.

غير أن مدير عام الاستثمار السابق بوزارة الطاقة والمياه، غسان بيضون، يعتبر أن الكلفة الهائلة لإنتاج الكهرباء إنما هي بسبب ضعف الكفاءة والهدر الداخلي، ولأن المعامل القديمة تحتاج لنقل "الديزل" بالصهاريج، مثل معملي صور وبعلبك، أي أن كلفة تشغيل المعامل مرتفعة، ويضيع من إنتاج الكهرباء نحو 40% بين هدر فني وسرقة، إضافة لنحو 10% تأخر بالجباية.

ويلفت بيضون إلى أن كهرباء لبنان توفر نحو ألف ميغاوات يوميًا، في حين يحتاج البلد لتوفيرها خلال 24 ساعة نحو 3200 ميغاوات.

ويصف إعطاء سلفة لمؤسسة الكهرباء بـ "البدعة والخدعة" لجهة عدم استدامته، أو لعجز المؤسسة عن تسديد ديونها.

تاريخ الأزمة

يروي المدير السابق بوزارة الطاقة، في حديثه للجزيرة نت، بعض الأسباب التي أوصلت الأمر لهذا الحد. فقبل عام 2002، كان وضع الكهرباء جيدا نسبيا، نظرا لإنشاء معملين جديدين، وهما دير عمار والزهراني. وفي العام عينه، تم إصدار قانون تنظيم قطاع الكهرباء (رقم 462/ 2002) وينص على كيفية إشراك القطاع الخاص في عملية إنتاج الكهرباء، من خلال تعيين هيئة ناظمة للقطاع. لكن الهيئة لم تعين، وكان من مهمتها إعطاء تراخيص وأذونات للقطاع الخاص.

ويعتبر أن عدم تطبيق القانون، سببه عدم الشفافية الناتجة عما يوصف بـ "الصفقات المشبوهة" في وزارة الطاقة.

وبعد مراحل من التخبط السياسي وموجة الاغتيالات وحرب تموز (عام 2006) استقر الوضع نسبيا عام 2010، فقدم باسيل، حين كان وزيرا للطاقة، ورقة "سياسة قطاع الكهرباء" التي تضم تصورا لحلول بدت متفائلة، كبناء معامل جديدة، والتركيز على الطاقة المتجددة، بحسب بيضون.

فاشترطت الحكومة حينها، وفقه، أن يطبق القانون لتنفيذ بنود الورقة، وكانت تحتاج نحو 4 سنوات فترة انتقالية، فتمت الموافقة على استئجار البواخر، ثم أقر منح وزارة الطاقة مليارا و200 مليون دولار، كي تبني معامل بقدرة 700 ميغاوات، وأن تعين الهيئة الناظمة ومجلس إدارة للكهرباء.

غير أن هذا لم ينفذ، نتيجة الاستئثار والاستهتار بالقوانين، وارتكاب أخطاء بإنشاء المعامل نتج عنها دعاوى تحكيمية لم تنته بعد.

ويعتبر بيضون أن لبنان ضيع فرصة تاريخية، وكان من المفترض، عام 2015، أن تتوفر الكهرباء 24 ساعة، وأن ينطلق القطاع الخاص للمساهمة بالإنتاج، لكنه لم ينطلق والكهرباء لم تأتِ.

ويشير إلى أن البلد يتكبد سنويا نحو ملياري دولار عجز للكهرباء، نتيجة إرهاق المؤسسة بكلفة البواخر، ومقدمي الخدمات، والاعتماد على شركات الصيانة وتشغيل المعامل، مما نتج عنه استنزاف ماليتها، فكلّفت على مدار 10 سنوات نحو 20 مليار دولار ضاعفت عجز خزينة الدولة فـ "انهارت مالية الدولة وأفلست كهرباء لبنان، ولو ذهب البلد إلى استعمال الغاز لوفر 400 مليون دولار سنويا".

ويذكر أن مؤسسة الكهرباء في الأصل يجب ألا تحتاج للاستدانة، لأنها مؤسسة مستقلة. وبحسب نظامها، يمكن أن تختار أفضل وسائل الانتاج، وتعتمد تعرفة تغطي تكاليفها، مع هامش للربح، لتؤمن استمراريتها، وهو ما كان سيعفي الدولة من أي مساعدة.

لبنان يعتمد على المحطات الحرارية لإنتاج الطاقة الكهربائية (وكالة الأنباء الأوروبية)

المولدات والكلفة الاجتماعية

من جهته، يذهب الباحث وأستاذ الاقتصاد بالجامعة الأميركية في بيروت، جاد شعبان، إلى الكلفة المجتمعية للكهرباء، والتي تتراوح بين 3.5 و4 مليارات دولار، بين فاتورة كهرباء الدولة وفاتورة المولدات الخاصة، التي يشترك بها اللبنانيون لتوفير كهرباء بديلة خلال ساعات التقنين.

وسنويا، تتجاوز الفاتورة التي يدفعها اللبنانيون على المولدات الخاصة مليارا و700 مليون دولار. ويرى الباحث، في تصريح للجزيرة نت، أن الكهرباء من أكثر الملفات فسادا، وأن مليارات الدولارات، التي صرفت على القطاع خلال 30 عاما، كان يجب أن تصرف على تحسينها بكلفة معقولة، بدل أن تذهب هدرًا، وبدل الاحتكارات وتحميل المواطنين كلفة تأمين الكهرباء الذاتية، عبر المولدات الخاصة، من نفس مصادر الاحتكار للمحروقات.

ويشير شعبان إلى أن لبنان يخسر سنويا نحو 200 مليون دولار، كلفة اقتصادية واجتماعية وبيئية بسبب انقطاع الكهرباء والمعامل التي تعمل من دون شروط بيئية تسبب التلوث، ناهيك عن الفرص الضائعة، وتقدر من 2 إلى 5% من قيمة الأموال سنويا للمجتمع اللبناني.

ما الحل إذن؟

يجمع كثيرون على أن الحل بملف الكهرباء ليس تقنيا فحسب، وإنما يحتاج لقرار برفع اليد السياسية عن القطاع، بغية تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، كوقف الصفقات واستعمال الغاز وإنتاج الكهرباء بكلفة أقل.

ومن هنا، يعتبر شعبان أن ثمة إجراءات ضرورية للحل، ومن بينها:

أولا- إدراج عروض لإنتاج الكهرباء بطريقة تحفظ حقوق اللبنانيين من دون سمسرة وفساد.

ثانيا- استقدام بواخر بأسعار جدية، لسد فجوة الإنتاج الحالية، كحل مستعجل ومؤقت، لتخفيف الكلفة العالية التي يتكبدها اللبنانيون على المولدات الخاصة.

ثالثا- الحل المستدام يكون بتغيير سياسة تأمين الكهرباء، عبر اللجوء للطاقة المتجددة، وتحسين آلية الجباية وإعادة هيكلة مؤسسة الكهرباء على المستوى الإداري، وتشكيل الهيئة الناظمة.

من جهته، يعتبر بيضون أن الحل الأمثل يكون بالتوجه نحو الطاقة الشمسية البديلة، خصوصا أنه عام 2019، صدر قانون عن البرلمان (رقم 129) مدد فيه لمجلس الوزراء ووزيري الطاقة والمالية، وإعطاء مهل للاستثمار بالطاقة الشمسية، ويذكر حلولا أخرى من بينها: تعيين رئيس جديد لمجلس إدارة الكهرباء، والهيئة الناظمة، خلال مهلة شهرين من دون انتظار تعديل القانون 462/2000، وأن تباشر مؤسسة الكهرباء برفع تعرفة مبيع الطاقة لدى المؤسسة، والتعجيل بتحصيل فواتيرها المتأخرة، وإلا فستكون العتمة الشاملة قدرا لا مهرب منه.

المصدر : الجزيرة