الليرة بأدنى مستوياتها التاريخية والدولار عنوان الغضب الشعبي.. من يتلاعب بالسوق النقدي في لبنان؟

سعر الصرف الرسمي للدولار أصبح مجرد رقم وهمي لا وجود له في الأسواق اللبنانية

بنك لبنان والمهجر - الجزيرة
رواتب اللبنانيين تآكلت لمستويات قياسية وهي من بين الأدنى عالميا (الجزيرة)

من الشمال حتى الجنوب بدأ يتقاطر المئات إلى الشارع تعبيرا عن غضب اللبنانيين بعد أن سجل سعر صرف الدولار مقابل الليرة أول أمس الثلاثاء انهيارا غير مسبوق بتاريخ لبنان، إذ قفز على عتبة 10 آلاف ليرة مقابل الدولار في السوق السوداء التي تتحكم فعليا بقيمة العملة الوطنية، بعد أن صار سعر الصرف الرسمي للدولار (1507 ليرات) مجرد رقم وهمي لا وجود له في الأسواق اللبنانية.

على هامش قطع الطرقات في طرابلس -وهي أكثر مدن لبنان بؤسا بعد أن بلغت فيها معدلات الفقر المدقع أكثر من 70% وفق خبراء- كانت أم محمد (45 عاما) تنتقل بين بسطات الخضار وتفتش في الصناديق المتلفة عن بعض حبات البطاطا والبندورة، وتستجدي البائعين السماح لها لشرائها بثمن زهيد.

وهذه السيدة -التي تتكل مع أولادها على عمل زوجها الذي يعمل بالمياومة مقابل 25 ألف ليرة (أقل من 3 دولارات يوميا)- قالت للجزيرة نت إن هذا المبلغ لم يعد يكفيهم حتى لتكلفة الخضار البالية والحبوب "أما اللحوم والدواجن فلا نحلم بشرائها، وننتظر الحصول على بعض الغرامات عن طريق الجمعيات الخيرية".

وقالت أم محمد بغضب "نعيش بذل لا يطاق، والتجار مثل الدولة لا يرحمون الناس بجشعهم وطمعهم، وصرت أتنقل سيرا على الأقدام كي لا أدفع أجرة التاكسي بعد ارتفاع أسعار المحروقات، وأفكر بدفع ابني لترك مدرسته الرسمية والعمل لإعالتنا، لأننا نعجز أيضا عن توفير قيمة إيجار منزلنا المتهالك".

من المسؤول؟

مقابل هذه المآسي، ثمة مجموعة من العوامل المتشابكة أدت لبلوغ انهيار الليرة هذا المستوى المتدني، من مضاربات في السوق السوداء وشح الدولار، لكن بعض المحللين اعتبروا أن هبوط الليرة إلى 10 آلاف ليرة هو نتيجة التعاميم التي أصدرها مصرف لبنان المركزي، وكان آخرها انتهاء مهلة تطبيق التعميم 154 في 28 فبراير/شباط الماضي الذي طلب من المصارف زيادة رؤوس أموالها بنسبة 20% وتكوين سيولة بنسبة 3% لدى المصارف المراسلة بالخارج ضمن خطة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي.

ورأى خبراء أن انتهاء مهلة هذا التعميم دفع بعض المصارف لسحب كميات ضخمة من الدولار من السوق السوداء، وبالتالي زاد الطلب عليه مقابل الشح في عرضه، مما جعله يلامس 10 آلاف ليرة.

لكن خبير المخاطر المصرفية محمد فحيلي استبعد أن تكون للمصارف يد بارتفاع سعر الصرف الدولار، لأن المصارف قادرة على تأمين سيولتها الدولارية من الخارج لوضعها بالمصارف المراسلة بدون الذهاب إلى السوق السوداء.

ويعتبر فحيلي أن تعميم مصرف لبنان جاء كحل مؤقت بانتظار أن تستيقظ السلطة السياسة للمباشرة بوضع إصلاحات ثم إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي يضع لبنان على سكة النهوض.

ويشرح الخبير -في تصريح للجزيرة نت- أن التعميم الذي طلب من المصارف زيادة رؤوس أموالها 20% يحمل رقم 567 وصدر في 26 أغسطس/آب 2020، بمهلة أقصاها حتى 31 ديسمبر/كانون الأول 2020.

أما تعميم 154 فيرتكز على مادته الأولى التي تهدف إلى وضع تقييم شامل وعادل للموجودات والمطلوبات لدى المصارف وفق فحيلي، وعلى أساسه يجب على كل مصرف وضع خريطة طريقه للتعافي، بمعنى تأمين رأس المال كي يمتص خسائره، ثم اتخاذ مصرف لبنان الإجراءات المناسبة المتعلقة بتطبيق أحكامه كدمجها أو تصفيتها، على أن تُدرس حالة كل مصرف على حدة استنادا إلى تقارير "لجنة الرقابة" على المصارف البالغ عددها 64 مصرفا تجاريا منيت بخسائر ضخمة تقدر بـ83 مليار دولار.

واستقبل رئيس الجمهورية ميشال عون أمس الأربعاء حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وطالبه بمعرفة الأسباب التي أدت لارتفاع سعر صرف الدولار إلى هذه المستويات، وإطلاع اللبنانيين -تأمينا للشفافية- على نتائج التحقيق.

أسواق الخضار - الجزيرة
معدلات الفقر المدقع بلغت في طرابلس أكثر من 70% (الجزيرة)

تورط المصارف

بدورها، لا توافق المحللة والصحفية المتخصصة في الشأن الاقتصادي محاسن مرسل على تبرئة المصارف من التلاعب بسعر صرف الدولار، وتؤكد أنه مع انتهاء مهلة التعميم 154 بدأ السوق في منتصف يناير/كانون الثاني وبداية فبراير/شباط يشهد ارتفاعا تدريجيا لسعر صرف الدولار، وكان مصحوبا بحركة شيكات غير طبيعية بدورة السوق السوداء.

وتقول محاسن مرسل للجزيرة نت إنه لدى البحث عن مصادر تلك الشيكات تبين أنها تعود لشركات ليس لها وجود قديم في السوق، ثم تبين أنها محسوبة على بعض المصارف، مما أدى لمضاربات غير مسبوقة بأسعار الشيكات.

وتشير المحللة إلى أنه حتى الآن لم يتمكن سوى مصرفي "لبنان والمهجر"، و"عودة" من بيع بعض فروعهما الخارجية لتأمين السيولة المطلوبة، فيما هناك مصارف كبيرة أخرى لم تستطع تأمين 1% منها فلجأت إلى السوق السوداء.

وقالت إن انهيار العملة الوطنية يترافق مع شبكة تدير التطبيقات الإلكترونية التي تتلاعب يوميا بسعر الصرف، وترجح أن تكون لجهات مصرفية وكبار الصيارفة يد في هذه التطبيقات، لتحكم سيطرتها على مفاصل السوق السوداء.

وتذكر محاسن مرسل أن الأسواق اللبنانية شبه مقفلة منذ نحو شهرين بسبب الإجراءات الاحترازية المرتبطة بكورونا، مما يعني انخفاض حركة الاستيراد إلى حدودها الدنيا، وتعتبر أن الكشف عن مصدر التلاعب بقيمة العملة يبدأ من السؤال الجوهري: من يملك الكتلة النقدية الكبرى بالليرة اللبنانية لكي يتمكن من زيادة الطلب على الدولار؟

انتقام الصرافين

بعيدا عن اتهام المصارف، يذهب المحلل والصحفي المتخصص في الشأن الاقتصادي عماد شدياق إلى أسباب أخرى أدت لارتفاع سعر صرف الدولار، في طليعتها عدم التوازن بين العرض والطلب، معتبرا أن السؤال الأصوب -الذي يعكس حجم التلاعب- هو: لماذا بقي الدولار ما دون 10 آلاف ليرة طوال المدة الفائتة في ظل الاستعصاء السياسي والاقتصادي؟

ويتوقع شدياق أن يكون مصرف لبنان لجأ بطريقة غير معلنة إلى تخفيض دعمه للمواد الأساسية بنسبة 50% نتيجة بدء شح الاحتياطي لديه، مما يرفع طلب المستوردين على الدولار، ولا سيما أن السلطة السياسية ترفض تعليق المركزي لدعم السلع خوفا من ردة الفعل الشعبية عليها.

ويرجح شدياق أن يكون للصرافين دور أساسي في انهيار العملة، ولا سيما بعد أن استدعى القضاء المالي نقيب الصرافين ونائبه في منتصف فبراير/شباط الماضي مع عدد من صرافي الفئة "أ"، واتهمهم باختلاس الأموال والتلاعب بسعر الصرف، مما قد يدفعهم لمزيد من التلاعب ضمن إطار الضغط السياسي.

محل للصيرفة - الجزيرة
انهيار العملة الوطنية يترافق مع شبكة تدير التطبيقات الإلكترونية التي تتلاعب يوميا بسعر الصرف وفق متابعين (الجزيرة)

فقراء العالم

بدأت قيمة الليرة تتهاوى تدريجيا منذ خريف 2019، وترافق ذلك مع الاحتجاجات الشعبية والاستعصاء السياسي وما تبعها من أزمة سيولة حادة وامتناع المصارف اللبنانية عن تزويد المودعين بأموالهم بالدولار.

وفي صيف 2020 بلغ سعر صرف الدولار مقابل الليرة نحو 9800 كرقم قياسي، لكنه عاد وتراجع حينها، واستمر صعودا وهبوطا ضمن معدلات مرتفعة، ثم استقر في الأسابيع الأخيرة بين 8 آلاف و8500 ليرة، قبل أن يقفز فجأة منذ أيام لأكثر من 9 آلاف ليرة، إلى أن لامس أخيرا 10 آلاف ليرة.

وعليه، يتوقع شدياق أن يبقى سعر صرف الدولار بلا سقف بقفزات متواصلة وصادمة إذا لم تتشكل حكومة وتسرع بوضع خطة اقتصادية لهيكلة القطاع المصرفي.

وبينما ذهبت بعض التقديرات النقدية السابقة إلى أن هناك نحو 10 مليارات دولار خُزّنت في المنازل بعد الأزمة يعتبر المحلل أن بعض اللبنانيين قد يتحمسون لارتفاع سعر صرف من أجل زيادة قيمة دولاراتهم التي تصلهم من الخارج أو موجودة لديهم، وهذا انعكاس لحجم الكارثة وعبثيتها، وفق تعبيره.

 الحد الأدنى للأجور

كشفت أخيرا دراسة "الدولية للمعلومات" أن رواتب اللبنانيين تآكلت لمستويات قياسية، وهي من بين الأدنى عالميا، ليصل الحد الأدنى للأجور نحو 68 دولارا، علما أن القانون اللبناني 46/2017 حدد الحد الأدنى للأجور بـ675 ألفا التي كان تساوي 450 دولارا حسب سعر الصرف الرسمي (1507 ليرات)، لتخسر أخيرا نحو 84% من قيمتها، وهكذا فقدت الرواتب في القطاعين العام والخاص قيمتها.

ويرى كثيرون أن التحركات الشعبية في الشارع ما زالت خجولة مقارنة بحجم الكارثة، ويتوقع الخبير الاقتصادي لويس حبيقة أن تكون أمام اللبنانيين أيام أشد قسوة بعد أن ارتفعت أسعار المواد الغذائية وحدها إلى أكثر من 400%.

لذا، ستكون البلاد -وفقا لحبيقة- على موعد مع موجة جديدة من التضخم الكبير بعد أن ضُربت كل أسس التوازن المعيشي في لبنان الذي صار مفتوحا على كل سيناريوهات الفوضى، أمنيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا ومعيشيا.

المصدر : الجزيرة