مسجد ومَسِيد "إدريس ود الأرباب".. موحد الفونج والعبدلاب ومرسي دعائم سلطنة سنار

أصبح مَسِيد ود الأرباب في العيلفون هو المرجعية الدينية لملوك الفونج والعبدلاب، يعودون إليه كلما جد شأن أو لفض نزاعات تكون الكلمة الفصل فيها لصاحب المسيد، وقد اعتبرت العيلفون العاصمة المقدسة لملوك السلطنة الزرقاء.

مسجد وضريح الشيخ إدريس ود الأرباب بضاحية العيلفون في منطقة شرق النيل بولاية الخرطوم (الجزيرة)

الخرطوم- على الضفة الشرقية للنيل الأزرق، وبمسافة تبعد عن مقرن النيلين ومركز العاصمة السودانية الخرطوم 30 كيلومترا جنوبا، كان المشهد مختلفا قبل نحو 5 قرون ولأعوام طويلة تلتها. فقد شهد مسجد ومَسِيد الشيخ إدريس ود الأرباب فصولا مهمة من تاريخ بناء الدولة السودانية، وكان مركزا للإشعاع الديني ورمزا للتسامح والتكافل، وأصبح منذ اكتمال إنشائه وجهة لكل طالب علم وصاحب مظلمة أو حاجة.

والمَسِيد هو المؤسسة التربوية التي تشمل المدرسة والمسجد ودار الضيافة وغيرها. وقد تجاوز المسيد كل ذلك ليصبح مركزا سياسيا، مهما ساهم في ترسيخ وإرساء دعائم أول مملكة عربية إسلامية في السودان، وهي سلطنة سنار (1504-1841) أو السلطنة الزرقاء أو سلطنة الفونج كما يطلق عليها.

وقامت تلك المملكة على أنقاض مملكة علوة المسيحية التي اتخذت من سوبا (شرق الخرطوم) عاصمة لها، وهي تبعد عن العيلفون -حيث مسيد ومسجد الأرباب- نحو 10 كيلومترات.

وهو الدور الذي أكدته مكانة الشيخ إدريس ود الأرباب وأهميته كوجهة دينية واجتماعية مؤثرة سياسيا، عندما رفض القبول بنصف الملك أو بأي منصب أو موقع سياسي في تلك السلطنة، بل كان هدفه واضحا: "أن يكون له حق الفصل في المنازعات والصلح بين المتشاجرين".

موحد الفونج والعبدلاب

وعن توحيد الفونج والعبدلاب، وهو الحدث الذي أسس لمملكة سنار، يقول الكاتب والروائي عمر فضل الله، ابن منطقة العيلفون وأحد أحفاد إدريس ود الأرباب، "إنهم، ومن تحتهم القبائل والممالك والمشيخات، كانوا بحاجة لأن يتوحدوا تحت سلطان واحد في دولة قوية ذات سيادة".

ويوضح فضل الله في مقال له على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، أن ذلك حدث بعد 25 عاما من سقوط مملكة علوة المسيحية، حيث جمع إدريس ود الأرباب كلا من الملك عمارة ود عدلان كبير الفونج، وعبد الله جماع ملك العبدلاب في بتري الشرقية (العيلفون)، وأعلن قيام الدولة من مسيده في أول أيام عيد الأضحى عام 935 للهجرة الموافق 15 أغسطس/آب 1529.

وأصبح مسيد ود الأرباب في العيلفون هو المرجعية الدينية لملوك الفونج والعبدلاب، يعودون إليه كلما جد شأن أو لفض نزاعات تكون الكلمة الفيصل فيها لصاحب المسيد. واعتبرت العيلفون العاصمة المقدسة لملوك السلطنة الزرقاء.

ونهضت مملكة سنار بفضل جهود ود الأرباب، إلى أن سقطت بعد غزو حاكم مصر محمد علي باشا للسودان عام 1821، وخلدها الشاعر السوداني الراحل محمد عبد الحي في أناشيده الخمسة قائلا:

سأعودُ اليوم، يا سنّارُ، حيث الرمزُ خيطٌ،
من بريقٍ أسود، بين الذرى والسّفح،
والغابةِ والصحراء، والثمر النّاضج والجذر القديمْ.
لغتي أنتِ وينبوعي الذي يؤوي نجومي،
وعرق الذَّهب المبرق في صخرتيَ الزرقاء،
والنّار التي فيها تجاسرت على الحبِّ العظيمْ
فافتحوا، حرَّاسَ سنّارَ، افتحوا للعائد الليلة أبواب المدينة
افتحوا للعائد الليلة أبوابَ المدينة
افتحوا الليلة أبواب المدينة.
– "بدويّ أنتَ؟"
– "لا"
– " من بلاد الزَّنج؟"
– "لا"
أنا منكم. تائهٌ عاد يغنِّي بلسانٍ
ويصلَّي بلسانٍ

في سيرة إدريس ود الأرباب

ويقول المؤرخون إن ود الأرباب ولد عام 913 للهجرة (1507 للميلاد) في منطقة العيلفون الحالية، وهناك من يقول إنه ولد في منطقة شمبات الحالية، وتوفي عام 1060 للهجرة (1650 للميلاد)، وهذا ما أكده أحد مشايخ المسيد الآن، وهو الشيخ الصديق الذي قال إن ود الأرباب عاش 147 عاما.

والده هو الشيخ محمد الأرباب من قبيلة المحس بشمال السودان. وكان جزء من أبناء المحس قد هاجروا من مناطق شمال السودان ليستقروا في شمال بحري وجزيرة توتي حيث ملتقى النيلين، وفي منطقة بري بالخرطوم الآن وكذلك في مناطق شرق النيل، وساهموا في ترسيخ دعائم الإسلام والدعوة في تلك المناطق. ووالدته هي فاطمة بنت حمد أبو دنانة الذي قدم من مراكش بالمغرب.

تقول سيرته إنه هاجر بعد وفاة والديه من حلفاية الملوك إلى بلدة العيلفون "بتري الشرقية" التي تبعد نحو 40 كيلومترا، بغرض الانقطاع للعبادة. وشهد له جموع المشايخ من مختلف مناطق السودان بالورع والتقوى والتفقه في الدين والعمل على نشر الدعوة وتدريس الفقه والعلوم الشرعية. وكانت نار مسيده لا تنطفئ من أجل تعليم القرآن الكريم، إذ فتحه من أجل ذلك الغرض فأصبح يؤمه أبناء السبيل والفقراء والمساكين والمحتاجون.

ود الأرباب وود ضيف الله

ما كان للفقيه محمد نور بن ضيف الله أن يتجاوز سيرة إدريس ود الأرباب في كتابه الشهير "طبقات ود ضيف الله" الذي حوى سيرة الصالحين والعلماء والشعراء في السودان، وغطى الفترة من نشأة مملكة الفونج وحتى دخول الأتراك العثمانيين إلى السودان عام 1821.

وقال ود ضيف الله في وصف ود الأرباب، من جملة ما قاله "هو الشيخ الإمام حجة الصوفية مرشد السالكين منقذ الهالكين قطب العارفين عَلَم المهتدين مظهر شمس المعارف بعد غروبها، الواصل إلى الله الموصل إليه، وهو الشيخ إدريس ود الأرباب.. وأما علوم المعارف والأسرار فقطب دجاها وشمس ضحاها"، بحسب وصفه.

تاريخ المسجد والمسيد

يحتل المسجد والمسيد مساحة كبيرة وسط قرية العيلفون تتجاوز 5 آلاف متر مربع، إضافة إلى المقبرة التي تضم داخلها بعض القباب، وأهمها وأكبرها ضريح الشيخ إدريس ود الأرباب.

مسجد وضريح الشيخ إدريس ود الأرباب (الجزيرة)

اكتمل بناء المسجد والمسيد عام 960 للهجرة (حوالي 1553 للميلاد)، ويضم في الوقت الحاضر بناية المسجد القديم بمئذنته التي تظهر فيها العمارة الإسلامية، وتقف شاهدة على تاريخ طويل امتد لقرون في خدمة القرآن الكريم. وعلى الرغم من البناية الحديثة الطراز التي أنشئت بجانبه لتكون بديلا للمصلين، فإن البناء القديم يقف شامخاً مستقبلاً القادمين بأصالته وعراقته.

وداخل الفضاء الواسع، -في شماله- يقوم المَسِيد الذي يضم أعداد كبيرة من طلاب علوم القرآن من مختلف بقاع السودان، يحفظون القرآن وينهلون من علومه ومن سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، منذ أكثر من 7 قرون وإلى الآن. وخارج ساحة المسجد والمسيد تقع المقبرة التي تقوم عليها قبة الشيخ إدريس ود الأرباب وآخرين.

رمضان في المَسيد

واحدة من المحطات المهمة في حياة المسيد هي قدوم شهر رمضان الكريم، والمشهد فيه لا يختلف كثيرا عن مشاهد رمضان في المدن والقرى السودانية، إذ تمارس فيه كل الشعائر والطقوس الرمضانية منذ الإعلان عن دخول الشهر، وتقام فيه صلاة التراويح وإفطار يومي لمئات الطلاب والعابرين. وقال لنا الشيخ الصديق إن تمويل إفطار رمضان في المسيد يأتي من الأهالي أنفسهم، ونادرا ما تدعمنا الجهات الرسمية مثل الشؤون الدينية والأوقاف.

وفي السابق، قبل بدايات عصر التكنولوجيا ودخول الإذاعات في البيوت، كان يعلن عن رمضان من داخل المسيد بواسطة النفخ في قرن، قبل أن يعتمد الناس على إعلان مجمع الفقه من الراديو ومن بعده التلفزيون.

وقال ود ضيف الله عن إنفاق ود الأرباب في الأحوال العادية إنه يحضّر 60 قدحا مملوءة بالطعام يعدها المريدون، أما من يعرفون عندهم بالحواريين فيأتون للمسيد من كل مناطق السودان، شرقا وغربا وشمالا، ويدخل الناس طائفة طائفة بهداياهم من سمن ودقيق وقماش وإبل، فيقسمها ود الأرباب على أصحاب الحاجة. ويضيف ود ضيف الله في طبقاته أن الشيخ صالح ود بانقا قال "ما وصل للشيخ شيء قط من أموال هؤلاء الجلابة، إلا 10 محلقات فضية ناولها إلى امرأة".

المصدر : الجزيرة