"السيدة روينا وغرفة الأشياء الضائعة" وحكايات أخرى.. العجائبية في قصص الفنانة السورية سعاد الجندي

يُجمع النقاد على أن ما يجعل أساطير حضارات ما قبل التاريخ وآدابها حية وخالدة إلى يومنا هذا إنما هو قدرة مؤلفيها على محاكاة مخاوفنا وكبواتنا النفسية بقصص رمزية وأبطال خارقين يقومون بأفعال عجائبية (خارقة للطبيعة) لها بالغ الأثر في نفوسنا نحن القرّاء.

كتاب "السيدة روينا وغرفة الأشياء الضائعة" للفنانة التشكيلية الكاتبة سعاد الجندي (الجزيرة)

تميل الفنانة التشكيلية والكاتبة السورية سعاد الجندي، في مجموعتها القصصية الجديدة "السيدة روينا وغرفة الأشياء الضائعة"، إلى جعل قصصها وشخوصها كاللوحات التي تبدعها؛ بسيطة ومكثفة الدلالة ومنفتحة على التأويل، دافعة بذلك القارئ إلى المشاركة في تأويل المعاني انطلاقا من ذاته.

وتمتد المجموعة -الصادرة حديثا عن دار موزاييك للدراسات والنشر- على 70 صفحة من القطع المتوسط، وتنطوي على 17 قصة قصيرة تروي فيها الكاتبة حكايات السيدة روينا وصديقاتها وما يتعرضن له من مواجهات حياتية وتحديات مجتمعية بسرد يمتزج فيه الواقع بالأحلام ويتخذ من المشاهد العجائبية طريقة ليخاطب من خلالها بواطن قرّائه.

السيدات وأحلامهن

في القصة التي حملت المجموعة عنوانها "السيدة روينا وغرفة الأشياء الضائعة" تسرد علينا الكاتبة -المقيمة في بلغاريا- مجريات حلم راود السيدة روينا التي وجدت نفسها فجأة أمام غرفة كُتِبَ على بابها "غرفة الأشياء الضائعة"، فدخلتها السيدة وبدأت تميّز أغراضا قديمة ذكّرتها بمراحل حياتها في المراهقة والشباب، فتمنَّتْ لو أنها تستطيع توجيه تلك الشابة وتحذيرها لتغدو فتاة أخرى غير التي أصبحت عليها روينا، ولكنها "سرعان ما استيقظت امرأة في منتصف العمر لن تجد ما أضاعته إلا في الأحلام".

وليست روينا وحدها من ترثي شبابها الضائع، فإلى جانبها صديقتها مينيرفا التي خانها زوجها مع أخرى من دون أن تجد لتلك الخيانة سببا مقنعا، فنراها في قصة أخرى -بعد أن طُلّقت وتجاوزت الـ40 من العمر- تجلس في أحد المقاهي مترقبة بحماسة وصول زميل سابق لها في المدرسة، وما إن مضت دقائق على لقائهما الذي سُرَّتْ به كثيرًا واستبشرت به خيرا ليكون فاتحة لزواج محتمل، حتى بدأ الرجل بالتلصص على امرأة ترتدي فستانا قصيرا، فمضت السيدة مينيرفا مسرعة بعد أن غمرتها الخيبة، "لا تلوي على شيء".

بهاتين القصتين وغيرهما حلمت السيدتان (روينا ومينيرفا) بحياة أخرى بعد أن أصبحتا في عمر متقدم لا يسمح لهن بعيشها؛ حلمن بأحلام تستعرض لنا سعاد الجندي مبرراتها في قصص أخرى، فتروي عن نسوة نشأن في مجتمع يجد في كلمة "عيب" الرد الوحيد على كل رغبة يرغبنها أو فعل يقمن به، فينصعن بذلك لسلطان أعراف تحرمهن من الاختيار أو المفاضلة أو تحقيق أحلامهن.

ومع ذلك فإن الجندي لا تتردد في انتقاد مظاهر التحرّر المبالغ بها من هذه الأعراف، حيث نرى بطلتها روينا في قصة بعنوان "العلّاكة" وقد أصابتها الدهشة من فتاة مسترجلة تجلس إلى جانبها في الطائرة وتعلك العلكة بطريقة مستفزة، وعندما استعجلت الفتاة العلّاكة بطريقة فظة رجلا مسنًّا يهبط على مهل من مدرج الطائرة تصدّى لها أحد الركاب بالتوبيخ، فقالت روينا لنفسها "إنها المرة الأولى التي أعلم فيها المعنى الحقيقي لعبارة: انشفى غلّي".

وهكذا تستعرض الجندي في قصصها تأزم وعي وسلوك بعض النسوة اللاتي فرّطن بأنوثتهن لسبب أو لآخر في مقابل معاناة أخريات مع مجتمع يغلب عليه طابع الذكورية، فتقول الجندي للجزيرة نت "على الرغم من تأزم وعي بعض النساء فإن المرأة -التي هي نصف المجتمع- في شرقنا العربي اللطيف غالبًا ما تكون النصف الضعيف والمقموع، تحت ذرائع دينية ومجتمعية وتقليدية متوارثة منذ قرون".

وتضيف "البطلات في قصصي يعانين من وطأة هذا القهر، حتى ولو كنّ ظاهريا مقتدرات ماديا، جميلات أنيقات، متزوجات أو مطلقات أو أمهات، يقدن السيارات ويجلسن في المقاهي. وهنّ، حتى لو كن غافلات عن كونهن خاضعات للأقوى: للتقاليد البالية، للرجل، للمال، للتفسيرات الدينية، فإنهن يشعرن أنهن مثقلات، ويتبدّى ذلك في بحثهن الدائم عن السعادة والاستقرار وإثبات الذات أو تحقيق الأماني".

الصفعات العجائبية

يُجمع النقاد على أن ما يجعل أساطير حضارات ما قبل التاريخ وآدابها حية وخالدة إلى يومنا هذا إنما هو قدرة مؤلفيها على محاكاة مخاوفنا وكبواتنا النفسية بقصص رمزية وأبطال خارقين يقومون بأفعال عجائبية (خارقة للطبيعة) لها بالغ الأثر في نفوسنا نحن القرّاء.

أسلوب تحاول الكاتبة استعارة أدواته وتطويعها لتتناسب مع مفردات عصرنا الحديث ورموزه، لتحاكي من خلاله مخاوفنا المستجدة، لا سيما تلك التي أورثتنا إياها الجائحة الوبائية قبل عامين، والحروب التي اندلعت وما زالت.

ففي قصة حملت عنوان "السيدة روينا والفيل"، نجد روينا قد اضطرت إلى التعامل مع فيل ضخم ظهر فجأة في صالون منزلها وأخذ يعيث فسادا في أثاثه، لتهرع روينا إلى زوجها وتخبره بما يحدث في الصالة، غير أنه يؤكد لها أنه لم ير شيئا.

والفيل في القصة هو "الكائن الذي لا أحد يراه غير السيدة روينا، ولا أحد يرى الضرر الذي يسبّبه سواها، فربما يريدها أن تصرخ به أو تضربه ليسحقها تحت أقدامه الكبيرة"، وللمفارقة تمكن الفيل في نهاية القصة من تدمير المنزل وقتل زوجها من دون أن يتمكن أحد من رؤيته، وذلك ما دفع السلطات إلى فتح تحقيق لمعرفة سبب الدمار بعد أن استبعدت أن يكون حريقا أو هزة أرضية.

وما هو فيل ضخم على مستوى القصة إنما هو الحرب التي أنهكت بلاد الكاتبة على مستوى الواقع؛ حرب اندلعت فجأة وعاثت فسادا من دون أن يتمكن أحد من رؤيتها أو إبصار هول فاجعتها وإيقافها قبل أن تدمر البلاد.

وعن ركونها إلى السرد العجائبي وما ينطوي عليه من رموز، تقول الجندي للجزيرة نت "إن العجائبية في قصصي هي نوع من الصفعات المؤدية إلى مواجهة الواقع، أو الهروب منه. نوع من رفض الرتابة اليومية، أو الأمل في إيجاد الحلول للأزمات واللجوء إلى دنيا مسحورة كل شيء فيها ممكن وقابل للتحقيق".

من فضاء الذكورة والأنوثة إلى فضاء المدينة

تتمحور معظم القصص في مجموعة "السيدة روينا وغرفة الأشياء الضائعة" حول الرجال والنساء والأزواج ورغائبهم وقناعاتهم وتحدياتهم اليومية في مجتمع يحملهم على الالتزام بما لا طاقة لهم به، فتقول الجندي "لقد قلت إن الأنثى في شرقنا مقموعة، ولكن لم أقل إن الذكور يطيرون فرحين بحريتهم، فحتى هم مكبلون بقيود يجب عليهم حملها كيفما تحركوا".

ولكن مع اقترابنا من نهاية المجموعة تبدأ أحداث القصص بأخذ منحى آخر تنتقل فيه الكاتبة من قضايا الرجال والنساء إلى قضايا المدينة الحديثة التي ضاقت على سكانها في زمن الوباء وانهيار المعقول، فتقول الجندي للجزيرة نت "لقد ضاقت بالذكور والإناث مدنهم وعقولهم ويريدون جميعهم الصراخ والانطلاق".

وبالانطلاق تنتهي القصة الأخيرة في المجموعة، إذ تستعيد السيدة روينا حيويتها بعد العزلة الطويلة التي فرضتها عليها الجائحة، وتنطلق إلى صف تعلم اللغة وتقرر السفر إلى القاهرة، لتعكس الكاتبة بذلك أملها في غد مشرق تكون فيه الغلبة لتحقيق الأحلام والانطلاق بحرية.

المصدر : الجزيرة