جذور الانبهار بالرجال الأميركيين البيض.. عبودية المزارع أو الحلم الأميركي الأول

The Civil War, African American 'contrabands' (escaped slaves), at Foller's house, Cumberland Landing, Virginia, by James F. Gibson, 1862.; Shutterstock ID 238058698; Department: -
عبيد أفارقة عام 1862 بعد هروبهم من جحيم الاستعباد في أميركا في زمن الحرب الأهلية (شترستوك)

تعود جذور انبهار الأميركيين اليوم بالرجال البيض الأغنياء إلى أيام العبودية التي يتسم بها تاريخ الولايات المتحدة.

وفي هذا المقال الذي نشره موقع الجزيرة الإنجليزية، قال الكاتب دونالد إيرل كولينز إن فكرة الحياة الريفية ظلت شاعرية ومتأصلة في الخيال الأميركي، لا سيما بالنسبة للأميركيين البيض، بدءًا من الأفلام وحفلات الزفاف والعطلات ووجبات غداء نهاية الأسبوع الخاصة بالأثرياء والمشاهير. ولا تزال أكثر من 300 مزرعة في الولايات المتحدة على حالها، في حين تحولت العشرات منها إلى متاحف.

وذكر الكاتب، الذي يعمل محاضرا في التاريخ بالجامعة الأميركية في واشنطن العاصمة، أن هذه المزارع تذكّر الأميركيين بزمن الثروة الفردية الفاحشة المكتسبة من العبودية، وهي قوة مطلقة لا مثيل لها سُلطت على البشر في أزمنة تاريخية عديدة.

الحلم الأميركي

بلغت جرائم الكراهية في الولايات المتحدة أعلى مستوياتها خلال 12 عامًا الأخيرة. وفي الحقيقة، كان الحلم الأميركي الأول يتمحور حول عبودية المزارع، أو أسلوب الثراء الأميركي. وقد شمل ذلك الاستيلاء على الأراضي وإزهاق أرواح السكان الأصليين، واختطاف الأفارقة واستعبادهم، وتقنين أرحام النساء الأفريقيات ضمن الممتلكات، وزراعة التبغ والقطن وقصب السكر كمحاصيل نقدية، وفق الكاتب الذي ألف كتاب "الخوف من أميركا "السوداء": التعددية الثقافية والتجربة الأميركية الأفريقية" (2004).

شملت عبودية المزارع جميع المعاملات العنصرية والمعادية للمرأة والطبقية والنرجسية المرادفة للحلم الأميركي. وقد كانت عبودية المزارع عبارة عن نظام لمراقبة أجساد وتحركات السود، والاغتصاب والتعذيب من أجل الربح المادي والمتعة الضارة.

ولكن بين اليقظة البيضاء وإنفاذ القانون والرأسمالية المطلقة، فإن العنف الذي خلفه هذا الحلم الأميركي الأول راسخ إلى حد كبير في كل تفاصيل حياة الأميركيين حتى يومنا هذا.

يتناسى الأميركيون أن ملايين الرجال البيض ساروا وراء هذا الحلم الأميركي الأول قبل وبعد أن أصبحت الولايات المتحدة دولة قومية. عندما استولت الولايات المتحدة الجديدة على المزيد من الأراضي، كرر هؤلاء الرجال أنماط الحياة القائمة على زراعة المحاصيل لتصبح المحرك الاقتصادي للولايات المتحدة. أولا في كنتاكي وتينيسي، ثم في لويزيانا وحرب عام 1812، وفي ألاباما ومسيسيبي.

بعد فترة وجيزة، وصل ذلك النمط إلى ميزوري وفلوريدا بدعم من الجيش الأميركي الذي قتل السكان الأصليين، ثم توسّع بضم تكساس وجنوب غرب الولايات المتحدة بأكمله من المكسيك. وبحلول خمسينيات القرن الـ19، استفحلت عبودية المزارع في كانساس وهددت بالانتشار في نيو مكسيكو وأريزونا.

العبودية نموذج أميركي

كانت العبودية في المزارع بالفعل نموذجًا أميركيًا بشكل عام، وليست مجرد نموذج جنوبي.

كان هناك رأس المال الناتج عن امتلاك الأراضي والعبيد، والثروة والقوة الناتجة عن المضاربة على الأراضي، وشراء وبيع العبيد انطلاقا من ديلاوير وماريلاند وفيرجينيا وصولا إلى مسيسيبي ولويزيانا وألاباما. هذا بالإضافة إلى الحسابات العديدة التي يمتلكها المصرفيون في فيلادلفيا ونيويورك وبوسطن، وهي الأصول التي مكنت المزيد من البيض من الحصول على قروض لشراء المزيد من الأراضي والمزيد من العبيد السود.

يضاف إلى ذلك رأس المال الاستثماري اللازم لبناء مصانع نسيج في نيو إنغلاند، ومشاريع الشحن لبيع وتجارة التبغ والأرز والقطن لأصحاب المصانع في بريطانيا.

ووفق ما أشار إليه المؤرخ إدوارد بابتيست في مقابلة مع موقع "فوكس" (Vox) في عام 2019، تحولت الولايات المتحدة في القرن الـ19 "من كونها اقتصادا زراعيا استعماريا في المقام الأول إلى ثاني أكبر قوة صناعية في العالم".

يشير العديد من المؤرخين الأميركيين إلى نموذج الرئيس الثالث للولايات المتحدة توماس جيفرسون للديمقراطية الزراعية باعتباره نموذجا مختلفا، لكن إذا كان لدى جيفرسون رؤية ديمقراطية، فقد كان ذلك محض خيال، بحسب الكاتب.

في أحسن الأحوال، كانت رؤية جيفرسون عبارة عن جنة عدن مليئة بالمزارع العائلية الصغيرة، حيث يطبق البيض الديمقراطية وينعمون بالحرية والازدهار.

وفي أسوأ الأحوال، كان الأمر يتعلق بالحفاظ على الوضع الاجتماعي والاقتصادي الراهن لأقلية بيضاء صغيرة تمتلك كل الأراضي الصالحة للزراعة، والأشخاص الذين اختطفوا والنساء اللواتي اغتصبن وأجبرن على إنجاب المزيد من العبيد للعمل في هذه الأراضي مجانا.

كان جيفرسون مزارعًا في ولاية فرجينيا ومنافقًا بشكل لا يصدق، حيث استعبد أكثر من 600 شخص طيلة حياته. وكان يمتلك مزرعة مونتيسيلو التي تبلغ مساحتها 2025 هكتارا وأصبحت الآن جامعة فيرجينيا. أنجب جيفرسون 6 أطفال من جاريته سالي همينجز، وهي الأخت غير الشقيقة لزوجته البيضاء مارثا، التي توفيت عام 1782 عندما كان جيفرسون يبلغ من العمر 39 عاما.

اتخذ جيفرسون من همينجز "عشيقة" له بين عامي 1787 و1789 أثناء خدمته في باريس وزيرا دبلوماسيا أميركيا في فرنسا. وكان عمره حينها يتراوح بين 44 و46 سنة، بينما كان عمر همينجز في ذلك الوقت ما بين 14 و16 عاما، أي أنها كان تصغر جيفرسون بـ30 عامًا، بحسب الكاتب.

النساء المستعبدات

كتبت المؤرخة آنيت جوردن ريد بشأن احتمال نشوء قصة حب بين جيفرسون وهمينجز، مشيرة إلى أن "الذكور البيض كانوا يمارسون سلطة مطلقة على النساء السود في عهد العبودية، وقد أفسد الاغتصاب والتهديد حياة العديد من النساء المستعبدات". وأضافت جوردن ريد "كونك زوجة لرجل لا يعني أن تكوني عبدة له، حتى لو كانت علاقة سالي وتوماس قد بدأت في ظل ظروف غير عادية".

كانت تلك "الظروف غير العادية" اغتصابا مقننا، لأن جيفرسون كان يمتلك همينجز والأطفال الذين أنجبتهم. وقالت جوردن ريد إنه لا علاقة للحب بهذا الأمر، خاصة إذا كان الاغتصاب واستعباد الأجيال هو ما كان يعنيه جيفرسون بأن يمتلك المزارعون "الفضيلة الكبيرة والحقيقية في الولايات المتحدة".

كتب عالم الاجتماع إدوارد دو بويز في كتابه "إعادة الإعمار الأسود" أن "مجرد حقيقة أن الرجل الأبيض يمكن أن يكون السيد الفعلي لعقول وأجساد بشر آخرين، بموجب القانون، ساهم في تضخيم غرور معظم المزارعين بغض النظر عن أي سبب آخر، لذلك أصبحوا متغطرسين ومختالين ومتوحشين. لقد سنّوا القوانين وألقوا بالأوامر، وكانوا يتوقعون الإذعان والإذلال. لقد كانوا حادي الطباع ويسهل إهانتهم".

إن الرغبة في امتلاك هذا النوع من القوة هو السبب الذي يجعل حتى البيض الذين يعيشون في الفقر يجدون دائما المتعة في تعذيب السود والتسبب في معاناتهم، يقول الكاتب.

وعموما، دمرت الحرب الأهلية أحلام الرجال البيض بأن يصبحوا طغاة من خلال الحلم الأميركي بعبودية المزارع. ولكن هذه النسخة من الحلم الأميركي تحوّلت واستمرت في قوانين ملايين الرجال الأميركيين وقلوبهم وعقولهم، ولعل هذا الحلم هو ما يفسر شعبية الرجال البيض الأغنياء في الولايات المتحدة، بحسب الكاتب.

ولكن الافتقار إلى مثل هذه المكانة يزيد من الكراهية المعادية للسود وكراهية النساء، ومشاعر الاستياء من شعور الرجال البيض بالاستحقاق وتراجع الخوف من العواقب، لأنه سيكون لديهم دائما جيش من المؤيدين في سعيهم إلى تحقيق هذا الحلم الأميركي السام. سيستمرون في تحويل هذا البلد وهذا العالم إلى كابوس لنا جميعًا، يختم الكاتب.

المصدر : الجزيرة