عولمة لا حرب حضارات.. التعايش والعنف في القرن الــ 21

من اليمين الباحث مصطفى زهران والبروفيسور حسام الدين إيناج والباحث الاقتصادي خورشيد عليكا (الجزيرة)

تعد العولمة بالنسبة لكثير من المراقبين، إما مرادفة لإزالة الضوابط الاقتصادية، ولفوضى اجتماعية، تنتهزهما رأسمالية متفلتة من أي إقليم، ولا تعير أي اعتبار لأخلاق أو لقانون، وإما مرادفة لصراع الحضارات.

وفي كتابه "عولمة لا حرب حضارات التعايش والعنف في القرن الـ 21″، الصادر حديثا بنسخته العربية، عن الدار العربية للعلوم ناشرون، ترجمة غازي برو، يقدم الكاتب الفرنسي رفائيل ليوجييه، الأستاذ بمعهد الدراسات السياسية في إيكس أون بروفانس، والكلية الدولية للفلسفة في باريس، إعادة قراءة لمفهوم العولمة في ضوء أيديولوجيات كبرى عابرة للحدود، وحروب تتورط فيها شبكات عابرة للأوطان، كما تأتي أهميته من كونه يتناول أهم المواضيع التي تمس وجودنا اليوم.

إعلان أفول الامبراطورية الأوروبية

يسعى رفائيل ليوجييه في هذا الكتاب للإجابة، عن أسئلة فلسفية، وأنثروبولوجية وسياسية في آن. حيث يقول لقد أصبح مفهوم "صراع الحضارات" محطة كلام مشتركة عندما يتعلق الأمر بالجغرافية والدين أو الهوية الوطنية. ويؤكد أنه من وجهة النظر الفكرية ليست أطروحة صدام الحضارات سوى الوجه الجديد لتيار أنثروبولوجي يعود إلى القرن الـ 19.

ويوافقه البروفيسور حسام الدين إيناج رئيس قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة "كوتاهيا دوملوبينار" التركية، قائلا للجزيرة نت "صراع الحضارات هو نموذج طرحته القوى الإمبريالية لإعادة تشكيل العالم بعد نهاية نظام ثنائي القطبية. وفقا لهذا النموذج، سيؤدي إلى تقسيم العالم مرة أخرى على أساس الدين والطائفة والمعتقدات، وخصوصا بعد حرب الخليج، أصبحت أطروحة صراع الحضارات ظاهرة للعيان".

ويذكر الكاتب في أغسطس/آب 1957، عندما كان المستشرق الشاب برنارد لويس (41 سنة آنذاك) يستعد لإلقاء مداخلته تحت عنوان عادي جدا "الشرق الأوسط في العلاقات الدولية"، أمام لفيف من الباحثين المجتمعين في جامعة جون هوبكنس في الولايات المتحدة، حيث يوجد أحد أشهر الأقسام للعلاقات الدولية في العالم، يقول ليوجييه لم يكن يتصور من دون أدنى شك أن إحدى التعبيرات التي سيستخدمها ستقود إلى أحد أشرس جدالات العقود القادمة.

الكونية تحت المحاكمة

وأشار المؤلف إلى أن فرانسيس فوكوياما أعلن رسميا ما أسماه "نهاية التاريخ"، متمثلا في ليبرالية منتصرة. وأن محرك احتراق التاريخ قد يكون قد توقف على إثر استنفاد كل الوقود الجدلي، وكل التناقضات الأيديولوجية بعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي (1989)، مما فتح أمام الإنسانية عالما جديدا.

ويشير حسام الدين إيناج للجزيرة نت إلى أن "العولمة وأيديولوجيتها الليبرالية الجديدة لم تستطع حل أي من مشاكل الإنسانية، إنما زادت من عدم المساواة والظلم بين الناس، حيث بدأت العديد من البلدان، وخاصة الولايات المتحدة، في التحول إلى اقتصادات حمائية بدخولها حدودها الوطنية، هذا الوضع يسرع من صراع الحضارات".

وبدوره ينوه الباحث الاقتصادي السوري المقيم في ألمانيا خورشيد عليكا في حديثه -للجزيرة نت- إلى أن "العولمة كانت بالدرجة الأولى في خدمة الغرب لعولمة العالم حسب النمط الغربي، فقبل العولمة كانت كل حضارة تعيش في حدودها الجغرافية الضيقة، واليوم مع العولمة هناك صدام بين الحضارات أكثر من حوار الحضارات".

ويرى ليوجييه أن أكبر المدافعين عن صراع الحضارات في الولايات المتحدة هم البروتستانت الأصوليون، وأضاف المؤلف أن الكاثوليك المتشددين في أوروبا الغربية والأرثوذوكس الروس ذوي النزعة الأكثر تقليدية والأرثوذوكس اليهود المتشددين، وحتى البوذيين المتشددين في سيريلانكا، هم مروجون متحمسون لأطروحة "صدام الحضارات".

ولادة تعبير في ظل الإسلام

ذكر الكاتب أن المؤرخ برنارد لويس بدا متأثرا عام 1957 إلى حد ما بأفكار بازيل ماثيوس الذي طاف في أراضي المسلمين، من المغرب إلى أفغانستان مرورا بشبه الجزيرة العربية، ويستدرك الكاتب لا يمكننا بالتأكيد اتهام المستشرق برنارد لويس (1916- 2018)، للإسلام باعتباره دينا جامدا وعتيقا في جوهره، لهذا -يضيف الكاتب- أن برنارد لويس لم يتردد، في التأكيد على أنه قبل مقدمات الحداثة الأوروبية في القرن الـ17، كان العالم الإسلامي أكثر تسامحا من العالم المسيحي بما لا يقاس إزاء أتباع الملل الأخرى.

ويتابع ليوجييه، مع ذلك، من الصعوبة بمكان عدم الشك في أنه يوجد في فكر المستشرق لويس نقطة مشتركة مع السرد الغريب لماثيوس، وهو تصوير الإسلام ككتلة متراصة، تم فيها محو التنافرات الداخلية ودينامياته الاجتماعية.

لا واقعية غربية

ويقول الكاتب إذا كان الإسلام اليوم عاملا حاسما، وأحيانا مفجرا للنظام العولمي، فليس لأنه قد يتعارض في العمق مع الحضارة التي يقال عنها غربية، مع قيم الحداثة.

ويبرر المؤلف كراهية المسلمين للغرب بقوله إن التعارض المفترض بين الإسلام والغرب ليس التعبير عن أي صدام للحضارات، لكنه نتاج تاريخ طويل يعود إلى عملية استعمار من قبل أوروبا لبقية العالم.

في حين يؤكد الباحث المصري في الحركات الإسلامية مصطفى زهران في حديثه -للجزيرة نت- أنه "لأول مرة منذ قرون يصبح العالم الإسلامي في حالة مشتتة ومنقسمة لا تجمعه مرجعية واحدة، ويعود ذلك إلى أن الغرب زرع نبات غريب في أرض المسلمين تمثل بإسرائيل كعامل محفز آخر لكراهية المسلمين للغرب".

التعايش والعنف الكوكبي الجديد

ويرى رفائيل ليوجييه أنه مع الإنترنت، وملايين المعلومات المتبادلة على مدار ساعات اليوم، لم يعد هناك من نطاقات جغرافية ثابتة يمكن للهويات أن تنبني ضمنها، وأنه من شأن موضة بسيطة مثل ثقب الجلد (Piercing)، ولعبة ما تنتشر على مستوى الكوكب مثل لعبة البوكر، ورياضة مدنية مثل الهيب هوب (hiP-hoP)، وممارسات مختلفة، وهوايات أخرى، أن تستطيع نوعا ما بشكل مستدام رسم حدود فضاءات حياة جماعية من دون أن يكون ثمة إقليم جغرافي مستقر.

ويبين ليوجييه أنه في القرن الـ21 حيث كان عصر الإعلام التفاعلي جماهيريا فإن الهويات تبنى ويمكن أن تنهدم بنحو شبه فوري ومتزامن على الشبكات الاجتماعية ومواقع الإنترنت، ويؤكد نحن غارقون في مغطس معلوماتي كبير (grand informationnel)، نتأرجح وفقا لموجاته وتقلباته وتياراته.

الترابط الشبكي اللامتناهي

ويلفت المؤلف النظر إلى أن التكنولوجيات الرقمية عن بعد عملت على بروز فضاء جديد للوجود، وقد اتخذت أشكالها في شبكات اجتماعية عامة مثل فيسبوك، ومهنية مثل لينكد إن (LinkedIn)، من قبل ملايين المواقع، مدونات شخصية يتم تقديمها كيوميات خاصة وعمومية، أو منتديات لمثقفين مشهورين أو مجهولين.

ويضيف الكاتب يمكننا القول إن الإنترنت هو منتدى ضخم متعدد الأقطاب، مكان للسوق الاقتصادي، والسياسي والثقافي، حيث يتم تبادل كل شيء، الأفكار والأذواق والأحقاد وحالات الحب، للأفضل وللأسوأ، كما أن الإنترنت يعيد اختراع الديمقراطية، حسب الكتاب.

المنافسة المعلوماتية

ويقول رفائيل ليوجييه إنه حتى لو كانت الرموز الأميركية، وبدرجة أقل الأوروبية، مسيطرة على المغطس المعلوماتي، فإن ذلك لم يمنع من ظهور شبكات إعلامية منافسة، مثال شبكة الجزيرة الإعلامية (AL Jazeera Channel).

ومن جهته، يعلق الباحث خورشيد عليكا قائلا "إن قناة الجزيرة لعبت دورا مهما منذ تسعينيات القرن الماضي في ثورة الاتصالات الحديثة، وكانت مؤثرة في كل منزل، وكانت برامجها المتنوعة إغناء للثقافات المتعددة في كامل المنطقة العربية، وهي لا تزال معروفة عالميا ويتمنى المثقفون والسياسيون من الدول الغربية تعلم اللغة العربية لمتابعة القناة، حيث تعتبر من القنوات الأوائل في العالم العربي".

ويشدد الكاتب على أن العولمة هي عملية خيالية، ليس فحسب امتدادية (التي تعتبر الجغرافيا) ولكنها أيضا تكثيفية (التي تعتبر الاعتقاد).

المصدر : الجزيرة