في ذكرى رحيله الـ26.. الشيخ إمام ورحلة بين المعتقل والغناء مع صديق العمر

الملحن والموسيقي والمغني الشيخ إمام عيسى ( 1918 - 1995)
الشيخ إمام عيسى نشأ في أسرة فقيرة بمحافظة الجيزة وشق طريقه بصعوبة في عوالم الغناء الشعبي رغم فقد بصره وخلفيته الأزهرية (مواقع التواصل)

هما مين وإحنا مين

هما الأمرا والسلاطين

هما المال والحكم معاهم

وإحنا الفقرا المحكومين

لما الشعب يقوم وينادي

يا احنا يا هما في الدنيا دي

حزر فزر شغل مخك

شوف مين فينا حيغلب مين

في أيام الاعتصام وليالي الميدان، عادت قصائد الشاعر أحمد فؤاد نجم بصوت الشيخ إمام -بعد 16 عاما من رحيله في مثل هذا اليوم 7 يونيو/حزيران 1995- تتردد من جديد بين جيلين من المعتصمين، جيل الكبار الذين عاصروا شعبية هذه الأغنيات في السبعينيات، وجيل الشباب الذين وجدوا في هذه الأغنيات مناسبة للحدث العظيم، فتعالت الهتافات "مصر يامه يا بهية" و"شيّد قصورك على المزارع".

كان مفاجئا أن جيل الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي يعرفون أغاني الشيخ إمام ويحفظونها عن ظهر قلب، وصارت أغانيه شعارا للثورة، حتى أن أشهر مجموعة صور لشهداء ثورة يناير نشرتها صحيفة المصري اليوم تحت عنوان "الورد اللي فتح في جناين مصر"، مستعيدة كلمات القصيدة الشهيرة لإمام ونجم التي تعود لعام 1973:

صباح الخير على الورد اللي فتح في جناين مصر

صباح العندليب يشدي بألحان السبوع يا مصر

صباح الداية واللفة ورش الملح في الزفة

صباح يطلع بأعلامنا من القلعة لباب النصر

كما كانت أغنيته "يا مصر قومي وشدي الحيل" -من كلمات شاعر العامية نجيب شهاب الدين- تتردد في فواصل النشرات الإخبارية على شاشة الجزيرة، محتفية بمشاهد ثورة يناير، ويشاهدها الملايين حول العالم.

بدايته

ظن الشيخ إمام أن العود ليس من نصيبه، فهو الشيخ الضرير ابن التعليم الأزهري الذي لم ير النور في حياته، حتى صادف ذات مرة كفيفا يعزف على العود، فلم ينم ليلتها، وذهب لصديقه المخرج والسينمائي كامل الحمصاني يطلب منه أن يعلمه العود، ليبدأ مسيرته في الغناء والتلحين، والتي قادته إلى السجن والمعتقل والشهرة.

لكن بدايته الحقيقية كانت عام 1962، حينما التقى بالشاعر أحمد فؤاد نجم (1929-2013) الذي كان يبحث عن شريك يغني له أشعاره من ديوان "صور من السجن والحياة" بعد خروجه من السجن، فشكل مع الشيخ إمام -المغني- ومحمد علي -الضارب على الرق- ثلاثيا سرعان ما لاقى شهرة ورواجا واسعا.

يحكي إمام "سنة 1962 التقيت بنجم وكان لقاؤنا بداية جديدة لي وله معا، سألني عندما التقينا وبعد أن استمع إليّ.. لماذا لا تلحن؟ فقلت مداريا خجلي من الفكرة، لأنني لا أجد الكلمات. فقال لي على الفور: اسمع هذا النموذج وقدم لي أغنية عاطفية لحنتها على الفور. وحين بدأت في التلحين، اكتشفت إلى أي حد يمكن لمقرئ القرآن الذي حفظه جيدا وأتقن لغته وأساليب تجويده، أن يكون ملحنا.. بل أن يكون سيد الملحنين لو كان يستمتع بقدر من الموهبة، فالقرآن كنز لا ينتهي".

شكل نجم وإمام ثنائيا شهيرا، وأصبحا ترجمانا للواقع السياسي والاجتماعي، يواكبه بالانتقاد المر والتحريض، كما وصفهما الكاتب خيري شلبي.

انتشرت أغاني الشيخ إمام في مصر، وخصصت له الإذاعة المصرية برنامجا بعنوان مع ألحان الشيخ إمام، قدّم فيه أشعار نجم.

النكسة

بعد نكسة يونيو/حزيران 1967، أقبل الثنائي على تقديم الشعر السياسي اللاذع الناقد للسلطة، وكان لقاؤهما مع الجمهور العريض في حفل نقابة الصحفيين عام 1968 سببا في تنامي شعبيتهما، وهو اللقاء الذي وصفه نقيب الصحفيين كامل زهيري آنذاك بأن ألحان إمام فيها "قسوة وفكاهة وروحا مصرية ذكية.. إنها أقرب إلى ألحان الشعب.. (وكلمات نجم) صريحة وقاسية ومليئة بالمفارقات وطازجة، وهذا ما نحتاجه".

وسرعان ما تم اعتقال نجم وإمام، وحكى الناقد والصحفي رجاء النقاش أن سبب الاعتقال كان غضب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر من قصيدة نجم "الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا"، خصوصا عندما سمع جملة "يا محلا رجعة ضباطنا من خط النار"، وسماه نجم في القصيدة باسم "عبد الجبار".

وتحكي نوارة نجم في برنامج "خارج النص" على قناة الجزيرة، أن عبد الناصر أصر على اعتقال نجم وإمام مدى الحياة، حيث لم يكن معتادا على أن يوجَّه النقد للقيادة السياسية.

ضد السادات

مع الإفراج عن الشيخ إمام ونجم بعد تولي الرئيس السادات السلطة، توالت قصائدهما السياسية الناقدة لها، وقدما معا "رجعوا التلامذة" عن مظاهرات الطلبة عام 1972، كما قدما أغنية "مصر يامه يا بهية" التي اختارها يوسف شاهين في فيلمه المثير للجدل "العصفور" عام 1972، واحتفاء بجنود مصر عقب نصر أكتوبر في قصيدته "دولا مين.. دولا عساكر مصريين".

وفي قصيدة "شرفت يا نيكسون بابا" عام 1974، انتقدا زيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون للقاهرة، والاستقبال الحافل له من القيادة السياسية. و"هما مين واحنا مين" التي هاجما فيها إفقار الشعب وتجويعه، جاءت ردا على أحداث 17 و18 يناير/كانون الثاني 1977، التي أسماها السادات "انتفاضة الحرامية".

وغنيا لجيفارا قصيدة "جيفارا مات"، و"موال الفول واللحمة" عن الفوارق الطبقية، وغيرها من القصائد الشهيرة مثل "يا فلسطينية" و"بقرة حاحا".

خلافات الرفيقين

في الثمانينيات، وبعد إلغاء قرار منع سفر نجم وإمام، انطلق الاثنان في جولة فنية في البلاد العربية والأوروبية ليلقيا قصائدهما أمام الجماهير خارج الحدود.

قال نجم عن إمام إنه "أول موسيقي تم حبسه في المعتقلات من أجل موسيقاه، وإذا كان الشعر يمكن فهم معناه فهل اكتشف هؤلاء أن موسيقى إمام تسبّهم وتفضحهم".

كان الخلاف مع نجم يشتعل بين حين وآخر، ويقول إمام إنه تحمل إهانات نجم منذ البداية، لكنه رأى أنهما يشكلان شيئا واحدا أمام الجمهور، واتهم نجم بحب الزعامة والرئاسة، وكان يحاول احتكاره ويغضب إذا غنى لشعراء آخرين.

رحيله ورأي فلسفي في كلماته

انعزل الشيخ الضرير في سنواته الأخيرة، وقضاها في حي الغورية حتى لقي ربه في مثل هذا اليوم عام 1995، بعد مسيرة طويلة بين الشعر السياسي والنضال وذكريات المعتقل.

وقال المفكر المصري حسن حنفي، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، عن الراحل "لقد قضيت معه (إمام) عدة ساعات في حجرة بحوش قدم (حارة صغيرة بقلب القاهرة اعتبرت ملتقى للفنانين والمثقفين)، وعرفت فيه الفيلسوف بعد أن عرفت فيه الفنان، والمواطن المصري الذي شهدته مصر طيلة تاريخها".

ووصف حنفي ألحان الشيخ وأداءه بالقول "إن لحنه الأساسي لا يتغير بتغير الأداء، بل في كل مرة يؤدي الشيخ إمام اللحن نفسه، بأداء جديد، وكأن الإنسان يسمعه لأول مرة، فهو يعيش اللحن من الداخل. ويؤديه كل مرة، وكأنه يؤديه لأول مرة".

وحول طرائق تلحين الشيخ إمام وأدائه التعبيري، قال المفكر الراحل محمود أمين العالم "وجدت في ألحانه وأدائه، الأغنية التعبيرية الدرامية النابضة بالمعاناة، الزاخرة بالحيوية التي لا تتسكع حول التكرار الزخرفي للنغم، أو تتوقف بك عند الزوائد الطفيلية التي تكمل المقاطع لضرورة شكلية، بل تعبر عنك وتتطور بك، وتمضي معك إلى غاية واضحة، تنبع من كل خبرة حياتك، أو تعود بك إلى حياتك نفسها، تعمقها، وتوقظ فيها كوامن الأصالة والصدق الإنساني".

ونقل عن أستاذ الفلسفة الراحل فؤاد زكريا قوله إن الشيخ إمام "ظاهرة لها سماتها الفريدة التي تفوق كل من عداه من الملحنين، وهو يقدم أداء يتجاوز نطاق اللحن البحت".

المصدر : الجزيرة