البحث عن الجوائز والتخلي عن النرجسية الشعرية.. شعراء كتبوا الرواية يحكون للجزيرة نت أسباب النزوح

يتحدث شعراء عرب عن تحولهم من كتابة القصيد لأدب الرواية، وينتقدون الفكرة التي تعتبر أن زمن الشعر قد ولى وبزغ عصر الروايات

كومبو من اليمين الشاعر ياسين عدنان و فاروق يوسف و رائد وحش - مواقع التواصل
من اليمين الشاعر ياسين عدنان و فاروق يوسف ورائد وحش (مواقع التواصل)

لم تكن الثقافة العربية القديمة ثقافة كلمة فقط، بل إن الصورة ظلت تشكّل أحد أهم وأبرز المكونات الفنية والجمالية التي تميّز هذه الحضارة العربية، التي طالما اعتبرها المفكر عبد الكبير الخطيبي "حضارة علامة".

ورغم الحصار الرهيب الذي باتت تفرضه بعض المؤسسات الثقافية على فنون الصورة والشعر دون غيرها، ظلت بعض التجارب الشعرية العربية، التي تمتلك مشروعا، متشبثة بأحلامها وتعمل جاهدة على فتح أراض جديدة داخل الكتابة الشعرية نفسها، مع أن البعض من هؤلاء الشعراء حاول توسيع أفق الكتابة من خلال الكتابة الروائية واستمراره في كتابة الشعر.

في حين ذهب آخرون إلى الرواية معتقدين أن زمن الشعر قد ولى، والغالب أن هؤلاء الشعراء نزحوا إلى الكتابة الروائية ليس بسبب ما تمنحه من حرية الاشتغال على مستوى اللغة والسرد والحكي وبناء الشخصيات وقدرتها كقالب فني على احتواء القضايا السياسية الكبرى ومحاولة تخييلها فحسب، وإنما بسبب الجوائز التي بات يحظى بها هذا الفن السردي دون غيره.

في هذا التحقيق، الجزيرة نت تضغط على الجرح أكثر من أجل فهم هذه العلاقة المتشابكة بين الشعر والرواية داخل العالم العربي، وتبحث في الأسباب الخفية التي قادت مجموعة من الشعراء من سوريا والعراق والمغرب إلى كتابة الرواية مع اعتنائهم الدائم بنصوصهم الشعرية.

"الديوان الشعري تراجع على مستوى المبيعات"

ياسين عدنان، شاعر وروائي مغربي

يقول الشاعر والروائي المغربي ياسين عدنان "انخرط في الآونة الأخيرة عدد من الشعراء العرب فيما يمكن تسميته بموسم الهجرة إلى الرواية دون أن يعني ذلك أن الأمر يتعلق بمارقين تسللوا خلسة وتباعا خارج مداراتهم الشعرية. فالتذمر الذي يبديه البعض من "نزوح" هؤلاء الشعراء إلى الرواية كما لو أنهم بصدد "هجرة غير شرعية" تثير الاستهجان، فيه مبالغة. ذاك أن الأمر لا يتعلق بتسلل غير شرعي لشعراء مارقين باتجاه ضفة الرواية، وإنما بتحولات أعمق على مستوى سوسيولوجيا (نفسية) القراءة والنشر وعلى مستوى الذوق الأدبي".

ويرى أنه لم يكن كتاب "زمن الرواية" لجابر عصفور أول إعلان عنها رغم ما تعرض له فور صدوره من انتقادات. ذاك أن أول من أشرقت في ذهنه هذه الفكرة هو نجيب محفوظ في رد له على العقاد نشره سنة 1945، حيث أوضح أن الشعر ساد في عصور الفطرة والأساطير ولعل العصر الجديد "عصر العلم والصناعة والحقائق يحتاج حتما إلى فن جديد". ذات الفن الذي سيحصل بفضله محفوظ على جائزة نوبل بعد 4 عقود من مقالته السجالية تلك على صفحات "الرسالة" القاهرية.

ويضيف ياسين عدنان للجزيرة نت أنه اليوم "حتى أشرس الشعراء لم يعودوا قادرين على مواجهة هذه المقولة. الديوان الشعري تراجع على مستوى المبيعات، وملتقيات الشعر فقدت بريقها. أما الجوائز فنرى كيف أن أهمها، من عيار البوكر العربية وكتارا وجائزة نجيب محفوظ، توجهت للرواية دون باقي الأجناس الأدبية. حتى الجوائز المفتوحة على مختلف الفنون الأدبية تتعامل مع دواوين الشعر كأرانب سباق، إذ غالبا ما تؤول في النهاية إلى الرواية. ثم إن جائزة نوبل للآداب نفسها إذا ما تعاملنا معها بمنطق إحصائي سنكتشف أنها جائزة روائيين في المقام الأول".

لكن المؤكد لدى عدنان هو أن "الشعراء الاستثنائيين لا تهمهم هذه الاعتبارات، لكن وجب الاعتراف بأن للسياق وطأته وتأثيره على عموم المشتغلين بحقل الأدب، دون أن يعني ذلك تجاهل المسارات الفردية للأدباء. فلكل من الشعراء العرب الذين تحولوا إلى الرواية في الآونة الأخيرة تجربته الخاصة. ففيهم من صرح في البداية بأن الكتابة السردية مجرد تنويع يصقل فيه الشاعر أدواته، قبل أن تستهويه اللعبة السردية ليغادر خيمة الشعر ويتكرس روائيا بالأساس".

ويستشهد عدنان بنماذج مثل أحلام مستغانمي التي بدأت شاعرة في الجزائر قبل أن يجرفها مد الرواية، واللبناني رشيد الضعيف الذي تفرغ للرواية ونبغ فيها، والسوري خليل صويلح الذي مذ توالت عناوينه الروائية لم يصدر له أي ديوان شعري. بالمقابل، هناك من الأدباء من ظل يزاوج بين الشعر والرواية في الكتابة والإصدار كما هو الشأن بالنسبة للمغاربة محمد الأشعري وحسن نجمي وفاتحة مرشد وعائشة البصري.

أما عن تجربته الشخصية يقول "كنت أناوب في إصداراتي بين الدواوين الشعرية والمجموعات القصصية، لذا وإذا ما تحولت إلى الرواية مؤخرا فقد انتقلت إليها من القصة القصيرة -التي ضاقت بي مساحتها- لا من الشعر. مع العلم أن الرواية اليوم صارت تستقطب أقلاما ليس من قبيلة الشعراء أو القصاصين فحسب، بل من المؤرخين ورجال الفكر والفلسفة وحتى الصحافيين. وهذا دليل على أن رأي نجيب محفوظ القديم يحتاج منا مقاربة أشمل من حصر القضية في كيل الاتهامات لشعراء هذا الزمن بخيانة القصيدة".

"انتقلت إلى عالم الرواية من غير أن أدري"

فاروق يوسف، شاعر وناقد عراقي

الناقد والشاعر العراقي المقيم في لندن فاروق يوسف له رأي آخر، فهو يعتبر نفسه أنه لم يكتب "الرواية بطريقة احترافية"، ويقول "فأنا قارئ رواية ولست روائيا. أنا أنظر إلى العالم بعيني شاعر. الكتب النثرية العشرة التي أصدرتها تنتمي إلى جنس أدبي يطلق عليه في الغرب تسمية "الأدب الشخصي"، وهو جنس قريب من الرواية غير أنه لا ينافسها من جهة تعدد شخصياتها وتنوع محاورها وامتدادها أفقيا".

ويستدرك "ذلك لا يعني أن بعض القراء قد توهم بأن عددا من تلك الكتب كانت روايات بسبب ما ضمته من الحكايات الواقعية والمتخيلة على حد سواء. فكلها كانت مستلهمة من رغبة شخصية في أن أروي ما عشته، غير أنني اكتشفت في ما بعد أنني رويت ما عشته وما حلمته بطريقة متشابكة. لا لشيء إلا لأن ما صرت أتذكره لا يضع حدودا بين الحلم والواقع. كل ما تذكرته كان بالنسبة لي حقيقيا وصرت أرويه للآخرين بعد أن صدقته. بسبب ذلك الاشتباك أكون قد انتقلت إلى عالم الرواية من غير أن أدري".

يضيف "لكن كل ذلك يبدو بالنسبة لي على الأقل افتراضيا. فلو طلب مني أن أفصل بين ما هو روائي وما هو جزء من سيرتي الشخصية لما استطعت القيام بذلك. وكما أرى فإن حبي للكتابة كان هو السبب. فأنا أحب الكتابة بغض النظر عن موضوعها أو جنسها. وقد يعتقد البعض أنني أكتب بيسر. ذلك ليس صحيحا. فأنا أجد الكتابة عملا صعبا مثل الحب. غير أن شغفي العميق بالحكايات يغرر بي دائما وينزلق بي إلى عزلة الكتابة. وبما أن كل شيء في الكتابة إنما ينبعث من لحظة شعرية فقد كنت أطارد اللغة مثل قطة تجري وراء موائها".

يختم فاروق يوسف حديثه قائلا "هل كنت حين عزمت البدء بكتابة سيرتي أفكر في أن أحولها إلى رواية؟ لا أنكر أن خيال الرواية كان ولا يزال يلح عليّ. لكن صفة روائي لا تغريني. ولا حتى ناقد فني. على الرغم من أنني أخصص وقتا طويلا لممارسة هذا الجنس الرفيع من الكتابة. لطالما حلمت في أكون شاعرا. ولقد أغنت لغة الشعر حياتي وفتحت أمامي طرقا للوصول إلى حقائق جمالية ما كان في إمكاني أن أصل إليها عن طريق اللغة العادية".

النزوح إلى الرواية مثل "رغبة في الخروج على موضوعة الذات الواحدة"

رائد وحش، شاعر وروائي سوري

أما الشاعر السوري رائد وحش فهو يستغرب من "استغراب الآخرين حين يكتب شاعر روايةً، دون أن يستغربوا بالدرجة نفسها حين يكتبها مؤرخ أو عالم أو صحافي. ربما يعود ذلك إلى تلك الأكذوبة الشائعة التي تقول إن الشعراء هم أفضل من يكتب النثر، فيجري الاهتمام المضاعف برواياتهم رغم أن الرواية ليست نثرا وحسب، فهناك الحكاية والشخصيات والأحداث والرؤية الفكرية".

بالنسبة له فإن النزوح صوب الرواية مثّل له "رغبة في الخروج على موضوعة الذات الواحدة التي يفرضها الشعر، من أجل البحث عن الذوات الأخرى ما أمكن، وما استطعت إلى ذلك سبيلا، فالكتابة الروائية عند الشاعر تمرين على التخلي عن النرجسية الشعرية، تلك التي لا تفكر بغير نفسها، ولا تهتم لغير نفسها".

يضيف وحش "لا يمكننا نكران المكانة المركزية التي وصلتها الرواية، حين باتت الثقافة تعرف عند كثيرين بأنها ليست سوى روايات. وإن كنت لا أتبنى هذه الفكرة إلا أنني أتفهم أسبابها ومبرراتها الكثيرة، وعلى رأسها أن الرواية باتت قادرة على الخوض في كل شيء: الدين والسياسة والتاريخ.. كما باتت قادرة على أن تشكل نقطة لقاء بين العلم والخرافة، والسياسة والاجتماع والاقتصاد، وبين الأدب والفلسفة والفن".

يختم حديثه إلى الجزيرة نت قائلا إن "قلة من الشعراء اكتفوا بالكتابة الشعرية خيارا فنيا وحيدا، ولو نظرنا نظرة فاحصة لوجدنا شعراء بدايات ومنتصف القرن الشعرين كتبوا مسرحا إلى جانب الشعر، ولوجدنا أيضا أن كثيرا من الروائيين الذين تلقى أعمالهم رواجا اليوم هم شعراء في لغاتهم، لكن الترجمة، المدفوعة بمنطق تجاري، تبدو غير مبالية إلا بالربح الأكيد الذي تحققه الروايات".

المصدر : الجزيرة