الكتابة في زمن الحرب.. أدباء عرب يكشفون للجزيرة نت عن تأثير الاضطرابات على إبداعهم

ادباء عرب زهير كريم صبري خمادي صلاح صلاح احمد السلامي
من اليمين: الروائي العراقي زهير كريم ثم مواطنه الكاتب صبري الحمادي ثم مواطنهما الكاتب صلاح صلاح، والكاتب اليمني أحمد السلامي (الصحافة العربية)

في زمن الصراعات والحروب، ومع انخفاض الإنتاج الأدبي للكتّاب في البلدان التي شهدت نزاعات وحروبا؛ برزت تساؤلات عديدة حول مدى تأثير الواقع السياسي وانعدام الاستقرار الأمني الحاصل في بلدان كثيرة على الإنتاج الأدبي؟ وهل يتأرجح هذا الأدب المرتبط بعدم الاستقرار بين الوثائقية وما فيها من روح الكتابة التأريخية، وبين الأدب وخياله المطلوب؟

وتدور التساؤلات حول إذا كان الكاتب خاضعا لضرورة الاستقرار السياسي في بلده، أو أنه يعكس أحوال مجتمعه مهما كانت؟ وتوجهت الجزيرة نت بهذه الأسئلة لأدباء عانوا من تجربة الحرب وفقدان الأمان في بلدانهم.

انعكاس الاستقرار على الأدب

يستهل الروائي العراقي زهير كريم إجابته بجملة وردت في مقال عن العبقرية ضمن منشورات عالم المعرفة، تقول "إن عبقرية الفنان تشبه درجات الحرارة شديدة الارتفاع التي لها قدرة على تفكيك تجمعات الذرات، ثم تجميعها مرة أخرى في ترتيب آخر"، ويقول إن هذا التشبيه يحيلنا إلى قضية تتعلق بارتباط الإبداع بالمخيلة.

ويتابع كريم "نحتاج للسكينة والاستقرار النفسي عندما تواجهنا مشكلة ما؛ الاستقرار السياسي بالطبع شرط مهم لخلق أدب هادئ، ناضج، بعيدا عن التشنجات. البلدان التي حدثت فيها اضطرابات سياسية -ولفترة طويلة- لم تخلق أدبا جيدا إلا ما ندر، أو أن الأدب نفسه يتخذ مسارات يكتنفها الغموض وعدم وضوح الرؤية، أو يتحول إلى صوت حماسي ذائب في خطاب أيديولوجي".

وهذا ما يؤيده الكاتب اليمني أحمد السلامي بقوله إن المبدع يحتاج للحرية والأمان الجسدي والاستقلال الاقتصادي أولا؛ إذ ليس من السهل أن تكتب وأنت خائف على حياتك وعلى وجودك أنت وعائلتك وبيتك ومكتبتك وجدول نشاطك.

ويردف السلامي "وفي الوقت ذاته لا أميل كثيرا إلى النظر للكاتب من الزاوية التي تجعله يبدو في حالة احتياج دائم لمكرمات السلطات والظروف من حوله؛ فكل الظروف التي تشهدها منطقتنا استثنائية ومخيفة وجالبة للقلق والتوتر؛ وبالتالي نحن نهبط إلى مستوى سقف القلق العام في هذه الجغرافيا عندما نختصر احتياج المبدع في توفر طقس سياسي مستقر. باستثناء الحروب والأخطار التي تهدد الحياة، أو تعرض الشخص لاحتمالات الهلاك يمكن للكاتب احتمال ما عداها".

ويكمل "أما انعدام الاستقرار السياسي أو توفره فهذا الأمر لا يخدم إلا السياسيين، أما الكاتب فيهمه استقرار بيئة التلقي وانتعاش استهلاك الفنون لكي يكون لسلعته الرواج الذي يتحول إلى تطور للمهنة، ويحرر الكاتب من سلسلة الاحتياجات والتعويلات".

وفي السياق نفسه، يؤكد الناقد العراقي صبري حمادي أنه من دون الاستقرار "لا يمكن للأدب عامة أن يزدهر، وعلى سبيل المثال الرواية، فهي فن يحتاج إلى تخطيط وهدوء، وفنون السرد عامة، بالإضافة إلى المسرح الذي لا يمكن له الاستمرار من دون استقرار سياسي".

أما الشعر فقد يختلف نسبيا -حسب حمادي- "لأنه لا يحتاج إلى زمن طويل لكتابته، ويمكن للشاعر أن ينشئ قصيدته أينما أراد ووقتما شاء؛ فشعراء مثل السياب والجواهري كتبوا في ظروف صعبة، لكن تبقى مسألة آليات الوصول إلى المتلقي من مطبعة وورق، مما يجعلنا نحتاج إلى الاستقرار من جديد".

من جهته، يعتبر الكاتب العراقي صلاح صلاح أن الطقس السياسي المطلوب هو توفر مساحة للحرية؛ "فالنظام السياسي القائم على الأيديولوجية، أيا كانت هذه الأيديولوجية، يريد منك أن تتسق معه. ظهور الإبداع يجب أن يتوفر له طقس يسمح لك بالكتابة عما يدور في عقلك ويسمح لك بأن تدون طريقة الخيال الخاص بك من دون خوف. الدكتاتوريات تخاف من الكتابة، وهي لا تنتج إلا أدبا هزيلا، إنها لا تفهم الإبداع".

الكم والتعتيم

بدوره، يعتقد صبري حمادي أن كم الإنتاج الأدبي انخفض في بلدان الحروب والصراعات، ويستذكر تجربته -كعراقي- خلال ما تسمى "حرب الخليج الثانية" فيقول: فررنا نحو الحقول، لم أستطع أن أقرأ كتابا أو أكتب أو أفعل أي شيء.

بعد نهاية الحرب، فإنها تتحول إلى تجربة أدبية، مثل رواية "فرانكشتاين في بغداد"، التي عبرت عن مخلفات الحرب ونتائجها الوخيمة، حسب حمادي.

في حين لا يعول الروائي زهير كريم كثيرا على أهمية الكم، ويعتقد أن المهم هو "الأدب الجيد الذي يمنح القارئ فرصة للتفاعل معه، الفن الجيد الذي يقدم رؤية ويطرح أسئلة مسكوتا عنها، الأدب الذي يكشف ويؤثر ويشير إلى الخلل، بل ويضع إصبعه على الجرح. لكنني أتفق أيضا مع فكرة أن المنتج الإبداعي يقل بالطبع أثناء الحروب؛ فالنزاعات المسلحة تعمل على عسكرة المجتمع، وتأسيس خطاب مزيف لإقناع الناس بكونهم جزءا من النزاع، وأمراء النزاعات يقومون بتوظيف كل شيء من أجل الحرب، وتحويل الأدب نفسه إلى آلة لخدمة فلسفة النزاع".

التأرجح بين التوثيق والأدب

ويعزو الكاتب صلاح صلاح هذا الانخفاض إلى حاجة الكاتب إلى فسحة من الوقت والتفرغ والوحدة غالبا؛ لكي يعيد صياغة الواقع والوصول إلى الاستنتاجات واكتشاف رؤى جديدة.

ويضيف أن ما "بعد النزاعات هو الفصل الأهم، الأكثر حيوية والأبعد أثرا؛ عندما يحدث تراكم للأحداث سيجلس الروائي وحيدا لكي يعيد ترتيب الأشياء. في خضم النزاع لن نمتلك إلا التسجيل وتدوين ملاحظات يتم بعدها البناء على ما يراه الكاتب. العمق في الكتابة يكون بعد انتهاء المأساة -الصدمة- وكل كتابة معاصرة لحدث شهادة تستطيع بعد ذلك استخدامها لصياغة أدبية".

ويقارن صلاح بين التوثيق والرواية قائلا إن التوثيق ربما يميل إلى الوثائقية والتدوين السريع، مثل: القصة القصيرة، والشهادات، والمدونات، والمقاطع الشعرية. أما كتابة الرواية فعمل يختلف تماما؛ الرواية عمل كبير، تجميع لكل شيء من الشعر إلى الفلسفة إلى الحدث إلى الخاتمة إلى الرؤى إلى المتن، وهذا يكون بعد الحرب.

ضبابية الواقع

وردا على تساؤل عن صورة المشهد الحالي، وهل ينتظر الكاتب استقرارا ما ليكوّن وجهة نظر بيّنة؟ يرد الكاتب أحمد السلامي بسؤال آخر: من الكاتب في هذه الحالة؟ إذا كنا نقصد الروائي -على سبيل المثال- فالروائيون لديهم فسحة من الوقت لهضم الأحداث ثم توظيفها.

ويضيف السلامي "الشاعر أيضا لم يعد معنيا بنقل ذبذبات اللحظة. يقوم الإعلام والإنترنت الآن بدور المواكبة والتحليل والقراءة والاستشراف. أما الأديب فمهمته اختلفت، ويمكنه التقاط الجوهري من كل ما يدور، قراءة ما بين سطور الأحداث. البعض لديه حدس ومقدرة على الكتابة عن اللحظة الراهنة مهما كان اللهب عاليا، وهناك من ينتظر ويراقب المآلات، لكن الصورة واضحة".

ويضيف إننا في مرحلة تشبهنا تماما؛ مجتمعات تحاول الاتساق مع ما هي عليه ومع الانسداد الذي تعيش فيه. ونأمل أن تلقن الفوضى والحروب درسا للجميع، وقد تكون الأداة الساخنة التي تثقب البالون لننتقل إلى ملهاة أخرى، أو تولد طرقا مختلفة في التفكير تجاه الواقع، وتنتج حلولا للإشكاليات المتراكمة.

لكن صورة المشهد الواقعي اليوم غير واضحة في رأي الكاتب صلاح صلاح؛ فهو يعتقد أننا لا نستطيع الوصول إلى استنتاجات، نحن نسجل فقط رؤى تكون أمامنا لكننا لا نستطيع الفرز بشكل واضح، لن نستطيع ترتيب الحكاية. في البدء تكون الأشياء مختلطة؛ من صور، ومقاطع شعرية، وخيال، وثورة، واضطراب، وهيجان، وتمرد، وسكون، وتفكير، واستنتاج، وترتيب، وموسيقى ذاتية في عقل الكاتب، وصوت خفي يسرد الحكاية أو مقاطع الشعر. يحتاج الكاتب إلى إعادة ترتيب كل شيء. إن الوضع الحالي يشبه لعبة (البازل) المعروفة. في البدء يكون العالم مثل يوم الخليقة الأول، كل شيء فيه متداخل، بعد ذلك تتضح الأمور، ويهرب الضباب، ويتوقف المطر، ثم تبدأ دورة الكتابة.

وقريب من ذلك، يرى زهير كريم أننا من أجل الوصول إلى درجة جيدة من الفهم، ثم تقديم رأي جيد، نحتاج للابتعاد مسافة مناسبة عن موضع الحدث، وجودنا داخل الصخب الذي يرافق المشاكل الكبيرة يجعلنا غير قادرين على الرؤية الواضحة، ننساق بقوة للمشاعر الحماسية التي تخلقها الأحداث المباشرة. معظم ما أُنجز عن الحروب والاضطرابات كان بعد توقفها بسنوات طويلة. أعتقد أن النزاعات في العراق وليبيا وسوريا سينتج عنها أدب عظيم فيما بعد، ستتضح الرؤية للمبدع، وسنرى كل شيء، ونكتب ونرسم وننتج سينما تستحق الحفاوة.

المصدر : الجزيرة