فيلة.. الجزيرة الحالمة لإيزيس وحتحور ووجهة المستشرقين والرسامين

أغرقت مياه النيل معبد فيلة وأعيد تجميعه على بعد 500 متر من موقعه الأصلي (وكالة الأنباء الألمانية)

فيلة جزيرة ساحرة تقع في نهر النيل الخالد جنوبي مدينة أسوان بصعيد مصر، جذبت الآثاريين والرسامين والكتاب والمستشرقين على مر العصور، وذلك بفضل موقعها الساحر ومعالمها الفريدة، فخلدها الرسامون والكتاب في أعمال فنية وأدبية تاريخية.

ومن اللافت أن الروائي والكاتب الفرنسي بيير لوتي -الذي عاش الفترة من 1850 وحتى 1923- قد رثى تلك الجزيرة في كتاباته، وصورها وكأنها كائن حي تعرض للموت.

لكنها ظلت باقية، ولا تزال الحياة تدب فيها حتى اليوم، وحتى حين غمرتها مياه البحيرة التي أقيمت خلف سد أسوان المقام على نهر النيل، لفترة من الزمن، إلى أن جرى تنفيذ مشروع ضخم لإنقاذ آثارها التي وثقها الرسامون الكبار من الأوروبيين والمصريين في لوحات فنية خالدة مثل لوحات الرسام الأسكتلندي " ديفيد روبرتس " الذي عاش الفترة من 1796 وحتى 1865، وقد جعلت منه لوحاته أحد المستشرقين العظام، والتي اختير بفضلها ليكون عضوا في الأكاديمية الملكية البريطانية للفنون.

الأساطير القديمة

ارتبطت جزيرة فيلة بالكثير من الأساطير المصرية القديمة، وكما تروي لنا كتب الآثاريين وعلماء المصريات، فإن فيلة شهدت أول بناء أقيم في عهد نختنبو الأول آخر ملوك مصر.

معبد إيزيس في جزيرة فيلة بأسوان جنوب مصر (شترستوك)

وكانت الجزيرة آنذاك "حديقة ناضرة في قلب دائرة متسعة من الجبال المظلمة المقفرة، وبالقرب من وسط تلك البيئة المقفرة لجزيرة بجه الجرانيتية، يقع أباتون ذلك المكان الذي يتعذر الوصول إليه، وهو المكان الذي نام فيه المعبود أوزيريس آخر نومة له".

وبحسب الأساطير المصرية القديمة، فقد كان قبر أوزيريس في موقع يشبه الأدغال، وتحيط به ٣٦٥ مائدة للتقدمات، تتلقى يوميا سكيبة من اللبن، وكان بقربه كهف ترتفع داخله المياه كل عام فتذكر بإعادة مولد ذلك المعبود، الذي دارت حول ولادته وحياته وموته أسطورة إيزيس وأوزيريس الشهيرة.

إيزيس وحتحور

وقد كرست عدة مبان بتلك الجزيرة للآلهة حتحور، ربة الأماكن القصية والموسيقى والمرح أيضا، والتي كانت قد فرت -بحسب الأساطير المصرية القديمة- إلى صحراء الجنوب الملتهبة، ثم استعادت اطمئنانها، وكانت جزيرة فيلة أول أرض مصرية تطؤها قدماها عند عودتها، وكرس معبد عظيم في الجزيرة لإيزيس زوجة أوزيريس، واللذين تدور حولهما أسطورة تحمل اسميهما.

ومن بين المعالم الأثرية في جزيرة فيلة صفان طويلان من الأعمدة، وهما يؤديان إلى أول صرح، يتبعه بيت الولادة، وهناك طريق أعمدة وصرح ثانٍ، خلفه مظلة صغيرة ذات أعمدة، ثم تأتي بعد ذلك الغرف الداخلية وبهوها.

وقديما شهدت جزيرة فيلة إغلاق المعابد المصرية بها لمدة طويلة، مع ظهور المسيحية، لكن حجاج بلاد النوبة ظلوا يفدون إليها ليضعوا القرابين على المذابح بهذه الجزيرة، وينقشون على جدران المعابد بعض التراتيل والصلوات لإيزيس "العظيمة".

حماية وترميم

وقد انتهى المجلس الأعلى للآثار المصرية، أخيراً، من تنفيذ مشروع ترميم وتطوير لمنطقة المعبد الأثري في جزيرة فيلة.

يقول الدكتور مصطفى وزيري الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، في تصريحات لوكالة الأنباء الألمانية، إن أعمال الترميم التي جرت شملت ترميم الأرضيات والأعمدة، وتنظيف الجدران من مخلفات الطيور والخفافيش، وترميم وتقوية الرسوم والألوان.

هذا إلى جانب تحديد مسار للزيارة بداية من دخول المعبد وحتى نهايته، ووضع وتركيب نظام إضاءة حديث يعمل على إظهار الجوانب الجمالية الفريدة للأثر، بجانب أقامة مرسي سياحي جديد لاستقبال السياح، وتطوير كافة المرافق الخدمية الملحقة بالجزيرة التاريخية.

معبد فيلة من جانب نهر النيل (شترستوك)

ويُذكر أن فيلة نالت أهمية بالغة لدى المصري القديم، نظرا لموقعها المتميز حيث شكلت مع جزيرة أسوان حدودا جغرافية طبيعية، وعرفت بالنصوص المصرية بالخط الفاصل، أما عن لفظ "فيلة" فهو مشتق من الكلمة الإغريقية "فيلاي" بمعنى الحبيبة، وقد عرفت في الأدب العربي باسم " أنس الوجود" لارتباطها بقصص التراث الشعبي، وقد نجحت جهود صندوق إنقاذ آثار النوبة في نقل آثار الجزيرة بالكامل لجزيرة أجيليكا المجاورة.

وقد اكتشف معبد إيزيس عام 1871 وهو المعبد الرئيسي بالجزيرة حيث يحتل ربع مساحتها، وقد شيده الملك بطليموس الثاني مكان معبد آخر أصغر حجماً كان مكرسًا أيضًا لإيزيس ومخصصًا للجنود المكلفين بحماية حدود مصر الجنوبية، وقد ساهم الكثير من الملوك البطالمة في بنائه.

ويوجد بالجزيرة أيضًا معبد كرس لعبادة حتحور، بالإضافة إلى مقصورة "نختنبو الأول" وكذلك مقصورة "طهرقا " التي شيدها أيضًا لإيزيس.

ويبلغ طول المعبد حوالي 19 مترا، وشيده بطليموس الثالث لعبادة الآلهة إيزيس وثالوث أسوان، ولم يكتمل بناؤه. بُني من الحجر الرملي، وله بابان، الرئيسي متوج بحلية يعلوها قرص الشمس المجنح يتم الدخول منه إلى صالة يفتح عليها 3 حجرات، وفي الجدار الشرقي من الحجرة الوسطى "قدس الأقداس" وقد نقشت عليه بعض المناظر الخاصة بتقديم القرابين.

مأساة النوبة

مطلع القرن العشرين كان سكان القرى المحيطة بالمعبد على موعد مع مأساة كبرى، ففي صباح العاشر من ديسمبر/كانون الأول 1902 اختفت معالم 10 قرى نوبية من ضفاف وجزر نهر النيل، في حين تظهر أعلام الدول الصديقة ترفرف أعلى الخزان الجديد، تمهيدا لافتتاحه كأول سد مائي بمصر سيحول ري الفيض بها إلى ري حياض ثم دائم، بطول 2141 مترا وعرض 9 أمتار.

وفي الوقت الذي كانت الضحكات فيه تتعالى بالتبريكات في فندق "كتاركت" الذي بُني خصيصا لاستقبال ضيوف افتتاح الخزان، كان النوبيون يوارون بقايا جثث ذويهم التي نهشتها تماسيح النيل، ويفكرون في العراء الذي ينتظرهم.

ولم تهتم الدولة ببناء منازل بديلة للنوبيين رغم معرفتها هندسيا بالكارثة قبل أن تقع، وبعد أيام من افتتاح الخزان انتفض العالم، لكن ليس لغرق النوبة بل لغرق معبد فيلة الأثري، الذي كان يقع بجزيرة خلف الخزان.

وتدريجيا بدأت قلة تعود إلى بعض الأماكن الغارقة، ولكن في مناطق أعلى من منسوب المياه كجزيرة هيسا وقرى الشلال وجرف حسين، وإذ جرى إنقاذ الآثار فإن السكان الذين عاشوا حولها لقرون طويلة لم يتم إنقاذهم ولا تعويضهم حتى الآن.

المصدر : الجزيرة + وكالة الأنباء الألمانية