ميرال الطحاوي: كبرت والغربة حررتني

حاورها: محمد الحمامصي-القاهرة
وحظيت "بروكلين هايتس" باحتفاء كبير منذ صدورها في وقت مبكر من العام 2010 عن دار ميريت. وهي تتناول قصة "هند" امرأة مطلقة وأم وحيدة مع طفلها البالغ من العمر سبع سنوات، تترك مصر إلى الولايات المتحدة، في رحلة أقرب إلى أن تكون بحثا عن الذات. وتتداخل وتتشابك فيها تفاصيل الذكريات وخباياها مع واقع مدينة نيويورك وأروقة بروكلين.
والروائية المصرية ميرال الطحاوي ولدت في محافظة الشرقية لأسرة بدوية من قبيلة الهنادي. وحصلت على شهادة الدكتوراه من جامعة القاهرة عام 2006 واختارت الرحيل إلى الولايات المتحدة لتقوم بالتدريس بإحدى جامعاتها. وصدرت لها روايات "الخباء" و"الباذنجانة الزرقاء" و"نقرات الظباء" إلى جانب مجموعة قصصية "ريم البراري والمستحيل".
الجزيرة نت حاورت الطحاوي، وتاليا الحوار:

الرحلة عموما في الحياة والأدب بحث مضن عن مكان تنتمي إليه. عشت في مصر فترة مؤلمة تخللها مرض الوالدة ووفاتها ورحيل عدد كبير من أعز الأصدقاء، فجأة مثل يوسف أبو ريه ومحمد البنكي وغيرهم، وتحولت الكتابة إلى سوق استثمارية كبيرة.

إن غياب جيلي من الكتاب الذين بدأنا معا وتحول المشهد كله سياسيا وإبداعيا، حدث ذلك مرة واحدة، أضف إلى ذلك الوضع السياسي الراهن لا أعرف بالضبط هل هو فقدان بيت الأسرة تماما بعد وفاة والدتي، وغلق الباب أمام طفولتي أم هو حالة من الإحساس العميق بأن هذا المكان لا يخصني، لا أنكر أيضا أنني توقفت عن الكتابة الإبداعية لصالح العمل الأكاديمي، وسبب لي ذلك أرقا وخواء، فالكتابة الرواية في حياتي ليست مهنة بقدر ما هي هوية بديلة لا أعرف لماذا فكرت في بلاد جديدة، وبيوت لا تحمل كل هذا الثقل من المواجد والذكريات.
عندما سكنت شقة بروكلين تحول الماضي الذي هربت منه، الفساد، العنف الديني، الفقد، أزمة منتصف العمر، الخيانة، التفسخ، كل هذه التركة صارت ضاغطة ولا خلاص منها إلا بالكتابة، فكل ما أعيشه بحواسي اليومية يردني إلى ذاكرة أبعد، وتحولت الحياة كما يصفها النص إلى ريح من الحنين العاتي حيث يكتشف الراوي والكاتب معا أن البدايات لا تتحقق بمجرد الرغبة فيها وأن ما حملناه بداخلنا يظل بداخلنا للأبد، ربما هذا ما قاله عالم النفس فرويد بوضوح ذكريات طفولتنا البعيدة هي اللاشعور الذي يفرز أحلاما وصراعات وربما كتابات أيضا.

"بروكلين هايتس" هي تجل لمسيرة وعي بالحياة، هي اللحظة التي اكتشفت فيها أن الانتماء الوحيد الذي لا خلاص منه والمكان الوحيد الذي يشكل هويتي هو هذا الماضي الذي أجتره.
بالطبع الرحلة أعطتني مساحة لأرى تجليات المشهد. أعطتني زاوية أوسع لرؤية ذاتي ورؤية عالمي القديم، فالعنصرية والفساد والتدين الزائف والتبشير والجهل كل هذه الأشياء متوفرة بمرارة في بلاد تدعي التحرر وقبول الآخر، الرحلة إلى الآخر تجعلنا أكثر وعيا بذواتنا، وبالمناسبة لعبة التشبيهات في الرواية هي ما يكتشفه الباحث عن الأمل في بلاد توزع أحلامها للغرباء، للأسف!

" لا أنكر أيضا أنني توقفت عن الكتابة الإبداعية لصالح العمل الأكاديمي، وسبب لي ذلك أرقا وخواء، فالكتابة الروائية في حياتي ليست مهنة بقدر ما هي هوية بديلة " |
كل قارئ جديد مكسب لكنني أظل أعتقد أن ما أكتب لا ينتمي لقوائم المبيعات المهولة، أولا لأنني أنشر باستمرار عند ناشرين لا يحترفون التكسب من الأدب، بدأت مع دار شرقيات وهي دار نخبوية وتهتم بالإنتاج الأدبي، وحين اخترت ميريت أيضا كان لنفس الأسباب، أنا سعيدة بمكاني في الخارطة مجرد كاتبة فقط، وهو شرف كبير لا تضيف إليه قوائم المبيعات شيئا.


لا أحب أن أنكر الجانب الشخصي في الفن, أنا ابنة تلال البدوان، لأنني خلقت هذا العالم وتماهيت مع البطلة، أعطيتها بعضا من خبراتي المؤلمة في الحياة كالإحباط والخيانة والسخرية من الذات والأمومة، وأعطتني هند روحها وقلقها وحاجتها للحياة.


لم أرد لهذا النص أن يختصر شيئا، فقط كنت أرسم عالمين متواجهين، واحدا أعيشه وآخر يعيش فيّ، تصادف أن يكون الأول هو حي بروكلين والثاني هو قرية صغيرة نشأت فيها، فإذا كان هذان العالمان يضيفان إلى العلاقة بين الشرق والغرب بعدا جديدا فهذا وارد، لكنني لم أرد شيئا ولا أنطلق في الكتابة من أفكار مجردة.
أبدأ من عوالم أحاول تشكيلها ثم أجدها تجسد هذا الجسر الحديدي الذي يختصر كل العلاقات بين الشرق والغرب، أعتقد أن جسر بروكلين كان شاهد نزوح لأمم جاءت من أقصى الشرق باحثة عن أحلام التحقق وربما تعثرت في الوصول إلى أحلامها مثل بطلتي.

كبرت، صرت أقرأ كثيرا وأتاحت لي الغربة الاطلاع على أعمال جديدة وشابة لعرب يكتبون بالإنجليزية، تحررت من البلاغة التي كنت مفتونة بها، كبرت في العمر أيضا، وحررتني الغربة من فكرة التوقع، لم أعد مشغولة بتوقعات الآخرين لما أكتب.
