من الواضح أننا نعيش في عصر الهمجية وانفلات العقال الأخلاقي والحقوقي من قبل أكثر المجتمعات "تحضرا" وأكثرها تغنيا بـ "المدنية" وبـ "احترام حقوق الإنسان "، فما يحدث من جرائم حاليا يجعلنا نتحسر على الزمن الذي كان القتال فيها متكافئاً من حيث القوة والشجاعة، ونستذكر بألم بعض القصص التي كان فيها الفارس نبيلا لا يجهز فيها على عدوه عندما يسقط سيفه، ولا يطعنه في ظهره، أو عندما يوصي القائد مقاتليه بعدم الإفساد واحترام المدنيين وضمان أمنهم.
لقد شهدنا الزمن الذي يموت فيه الأطفال والنساء والرجال جوعا وقصفا وخنقا وقنصا، ويتفنن فيه العدو بصب جام حقده ورغبته المستعرة في الانتقام والإبادة، ويتقاعس فيها الأخ والجار القريب والبعيد عن وقف المذبحة أو مساعدة المدنيين، وعاصرنا في الشهر الأخير أشكالا جديدة من الموت لا تقل قسوة عن سابقتها إلا أنها تحفر بالضمير الإنساني وتوجعه لأنها تندرج تحت مسمى "القتل بسلاح الجوع".
نص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أن تجويع المدنيين عمدا من خلال "حرمانهم من الأشياء التي لا غنى عنها لبقائهم على قيد الحياة، بما في ذلك تعمد إعاقة إمدادات الإغاثة" يعد جريمة حرب.
سياسة التجويع جريمة حرب وإبادة
عرفت سياسة التجويع كوسيلة من وسائل الحرب منذ زمن بعيد، بدءا من الحصار وحتى قطع المياه بهدف الضغط على العسكريين لإجبارهم على الاستسلام، إلا أن هذه السياسة وخاصة بعد الحربين العالميتين اعتبرت أمرا غير أخلاقي، فحظرت العديد من مواثيق القانون الدولي – كالقانون الجنائي الدولي والقانون الدولي الإنساني- استخدام التجويع كوسيلة في جميع النزاعات المسلحة، بينما اعتبر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في عام 2018 سياسة تجويع المدنيين جريمة حرب.
كما نص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أن تجويع المدنيين عمدا من خلال "حرمانهم من الأشياء التي لا غنى عنها لبقائهم على قيد الحياة، بما في ذلك تعمد إعاقة إمدادات الإغاثة" يعد جريمة حرب. ولا يتطلب القصد الإجرامي اعتراف المهاجم، بل يمكن أيضا استنتاجه من مجمل ملابسات الحملة العسكرية، إلا أنه حصر هذه الجريمة بالنزاعات المسلحة الدولية.
لم تكن سياسة التجويع أمرا مستجدا على "الحكومة الإسرائيلية"، فقد بدأت بتجويع الفلسطينيين منذ أن فرضت عليها الحصار قبل أعوام، وتحكمت بدخول المساعدات التي أصبحت عصب الحياة للعديد من السكان المحاصرين، وتسارعت هذه السياسة منذ أحداث السابع من أكتوبر بعدما اتبعت سياسة الأرض المحروقة، فدمرت المحاصيل الزراعية ومنعت السكان من الوصول لها، وأغلقت المعابر ومنعت دخول شاحنات المساعدات.
ويؤكد تصريح المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في الغذاء أن السياسة الإسرائيلية السابقة خلقت حالة من الهشاشة في غزة، وهو ما مكنها من افتعال مجاعة سريعة لأن الوضع السابق كان على حافة الهاوية، مشيرا إلى أن هذا الانهيار السريع في الوضع الإنساني وخاصة بين الأطفال لم يحدث سابقا على مستوى العالم في هذه المدة الزمنية القصيرة.
وتظهر الأنباء الواردة من غزة إلى أن معدل سوء التغذية الحاد بين الأطفال دون العامين ارتفع بشكل مخيف ليصل إلى نسبة 15% من الأطفال في شمالي غزة و5% في جنوبها، وقد أصبح البحث عن الأعشاب البرية أو اصطياد السمك جريمة تستدعي العقوبة والاستهداف وقد تؤدي بصاحبها للموت.
تتسبب المجاعة ونقص الغذاء بمشاكل صحية فيتقلص حجم القلب والرئتين والمبيضين والخصيتين نتيجة تقلص العضلات، ويحاول الدماغ حماية الجسم عن طريق تقليل بعض الوظائف الحيوية، مثل عملية الهضم مما يؤدي إلى الإسهال
التجويع.. عندما يأكل الجسم نفسه
تبدأ المجاعات عندما يحرم المدنيون من الحصول على ما يكفي من السعرات لمواكبة احتياجات الجسم من الطاقة نتيجة فقر، أو صراعات عسكرية، أو حصار أو غيره، وفي هذه الحالة ينتقل المدنيون غالبا لاستهلاك الموارد المتاحة والتي لم تكن تعتبر في السابق "طعاما"، كبعض النباتات وعلف الحيوانات.
ومع انخفاض كمية ونوع الغذاء الداخل للجسم، يحاول الجسم في الأيام الأولى التأقلم مع هذا النقض كما يحدث في حالة الصيام، إلا أن استمرار هذا النقص لفترة طويلة تجعل الجسم يلجأ لاستنفاد موارده الاحتياطية كالدهون والمعادن والفيتامينات، وعندما لا يجد الجسم ما يأكله يبدأ بالتغذية على نفسه، حيث يقوم باستهلاك مخازن البروتين في العضلات بما في ذلك عضلة القلب.
تتسبب المجاعة ونقص الغذاء بمشاكل صحية فيتقلص حجم القلب والرئتين والمبيضين والخصيتين نتيجة تقلص العضلات، ويحاول الدماغ حماية الجسم عن طريق تقليل بعض الوظائف الحيوية، مثل عملية الهضم مما يؤدي إلى الإسهال، إلا أن ذلك يتسبب بموت الخلايا العصبية وفقدان المادة الدماغية، وهو ما يتسبب بضرر لا يمكن علاجه وخاصة عند الأطفال، كما تتسبب المجاعة بتغيرات سلوكية واضحة فيصبح الشخص سريع الانفعال أو لا مبال أو خامل، يتعذر عليه التركيز، وقد يعاني في المراحل المتأخرة من المجاعة من الهلوسة والتشنجات واضطرابات في ضربات القلب، تنتهي بتوقفه.
يحتاج أولئك الذين اختبروا حالة المجاعة إلى خطة علاج متكاملة، حيث قد لا يكون كافيا توفير الطعام المناسب لهم لاحقاً، ومن الضروري إجراء فحص طبي شامل لتقييم الوضع، الذي قد يستدعي في بعض الأحيان دخول المستشفى أو الخضوع لبرنامج علاجي طويل لمعالجة الأمراض أو الالتهابات الكامنة، بالإضافة إلى برنامج غذائي متدرج يقدم لهم بعض الأطعمة العلاجية، مثل عجينة زبدة الفول السوداني المغذية بالكامل، والحليب الجاف الخالي من الدسم، ومجموعة واسعة من الفيتامينات والمعادن.
لا تبدو سياسة الكيان الصهيوني ضمن سياق رد الاعتبار والدفاع المزعوم، بل تأتي كحلقة أخيرة ضمن سياسة متكاملة تسعى للانتقام وإبادة جيل كامل، من خلال تعريض أطفاله ونسائه وشيوخه لظروف لا إنسانية تشوه نموهم الجسدي والعقلي
عودة القتلة المتعطشين للإبادة والإفناء
مجددا، يظهر المجتمع الدولي فشلا سياسيا وقانونيا وحقوقيا وأخلاقيا، بسماحه وتغاضيه عن مثل هذه الجرائم في عصر يتشدق فيه بالتحضر والمدنية والقيم الديمقراطية القائمة على المساواة واحترام حقوق الإنسان، كما يظهر واقعا يدعو للاشمئزاز يتحكم فيه مجموعة من المجانين والخرفين بمراكز صناعة القرار ويدفعون بالعالم نحو المزيد من الانفجار استجابة لمصالحهم وتحالفاتهم.
لقد انتهك العدو الصهيوني القانون الإنساني الدولي وقوانين الحرب بشكل سافر عدة مرات، ابتداء من إطباق الحصار وحرمان المدنيين من أساسيات الحياة، ثم اتباعه سياسة الأرض المحروقة وتدميره كل وسائل الحياة وتجريفه للأراضي الزراعية، ومنع أصحابها من الوصول لمحاصيلهم وتدمير مطاحن القمح وصوامع الحبوب والمخازن، وشبكات الطرق ومرافق المياه والصرف الصحي، واستهداف الصيادين.
ولم يكتف بذلك، بل منع دخول المساعدات الإنسانية من الخارج، وماطل في إدخال المساعدات القادمة عبر البحر، ودمر الطرق الرئيسية مما جعل عملية إدخال المساعدات – فيما لو تمت – أمرا بالغ الصعوبة، وحول شاحنات المساعدات المعدودة التي سمح لها بالدخول إلى مصائد لجذب أكبر عدد من المدنيين ثم استهدافهم بشكل مباشر، كما حدث في مجزرة الطحين التي استشهد على إثرها 100 مدني وأصيب مئات آخرين، ونفى وأنكر بوقاحته المعتادة وجود مجاعة في غزة متهما حماس بسرقة المساعدات الموجهة للمدنيين.
لا تبدو سياسة الكيان الصهيوني ضمن سياق رد الاعتبار والدفاع المزعوم، بل تأتي كحلقة أخيرة ضمن سياسة متكاملة تسعى للانتقام وإبادة جيل كامل، من خلال تعريض أطفاله ونسائه وشيوخه لظروف لا إنسانية تشوه نموهم الجسدي والعقلي وتخلق لديهم آثارا صحية لا يمكن معالجتها أو التعامل معها مستقبلا.
من المؤسف أن نشهد في العقد الأخير تكرار هذه الجريمة في مناطق مختلفة من عالمنا العربي بنفس السيناريو والخطوات، وبنفس التجاهل الدولي واللامبالاة، في كل من سوريا واليمن وغزة دون أن يتحرك أحد لإيقافها أو معاقبة مرتكبها، وهو ما أعطى هؤلاء المجرمين الضوء الأخضر للاستمرار والمتابعة، وشجع غيرهم من المتعطشين للدماء لإزهاق المزيد من الأروح من أجل إشباع غرورهم وإفراغ حقدهم، بحيث أصبح هذا النهج وتلك السياسة مقبولة ومبررة طالما أنها تمس شعوب العالم الثالث يكفي معها الاستنكار والإقرار بالعجز.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.