شعار قسم مدونات

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!

blogs - النصيحة
الإسلام بثبات مبادئه الدينية والأخلاقية فقد جعل من المفهوم مبدأ ثابتا لا لبس فيه ولا خلاف (مواقع التواصل الاجتماعي)

صرخت بوجهي وقد انتفخت أوداجها واحمر جبينها بعد أن علمت أن أختي أهدتني في غربتي أغنية عبر سماعة الهاتف، (كنت تسمعين أغنية لعبد الحليم! وهكذا تقولينها بكل برود ودون أدنى خوف من الله! يا إلهي إذا بليتم بالمعاصي فاستتروا)، ثم ضربت الباب خلفها في ثورة وغضب. كان هذا المشهد هو أحد المواقف المتكررة التي لا أنساها عن المعنى الذي يعشش في أذهان الكثير الناس عن التطبيق العملي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فما بين إفراط وتفريط، تتحول المفاهيم من قيمة سامية تطلبها المجتمعات وتحتاجها لعبء تتطلع لخلعه أو لوسواس يقض مضجعها. ويحصل ذلك عندما يتم استخدام المبادئ للوصول لغايات معينة قد تودي بمبادئ أخرى أهم منها، أو عندما يتم التذرع بها للإتيان بنقيضها، أو عندما يصيب المبدأ خلل مفاهيمي مما يؤدي لتوظيفه في غير موضعه، وهذا ما أصاب المبدأ الإسلامي العظيم (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

تتميز المجتمعات المتحضرة والأفراد الأصحاء بالشعور بالمسؤولية الأخلاقية تجاه المجتمع الذي يعيشونه، بغض النظر عن المردود النفعي على المستوى الشخصي المباشر، وبالحرص على المحافظة على سيرورة المجتمع من أي خلل قد يضرب القيم الأساسية فيه، وبالتحلي بمقدار كافي من الوعي يميز فيه الأفراد بالحد الفاصل الذي يفصل الحرية الشخصية عن المسؤولية الجماعية التي تقيدها. ففكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبدأ أخلاقي عام، ولكل مجتمع بحسب معروفه ومنكره وانطلاقا من أسسه وقيمه، وتمارسه المجتمعات اليوم عبر وسائل كثيرة، من أهمها السعي لسن قوانين وتشريعات، ويمارسه الأفراد انطلاقا من قيم متجذرة فيهم كحرية الرأي وضرورة المشاركة في صناعة القرار، والحق الاجتماعي والمسؤولية الوطنية. وقد تطورت الوسائل في العلوم الاجتماعية على نحو كبير وأصبح بالإمكان الاستفادة منها لتفعيل هذا المبدأ بأوسع قدر ممكن.

لكن يتفرد الإسلام بإضافة مزيا لهذا المفهوم، فهو ليس مجرد واجب سلوكي يفرضه التشريع القانوني وتطبقه السلطة بأدواتها، بل هو مفهوم ديني لصيق بالمسلم ينبع من ذاته ومن الرابطة الأخوية الروحية التي تجمع أفراده، ومن الشعور بالمسؤولية تجاه الأمة والولاء لها، بالإضافة لذلك فإن الإسلام بثبات مبادئه الدينية والأخلاقية فقد جعل من المفهوم مبدأ ثابتا لا لبس فيه ولا خلاف، لا تغيره أمزجة الناس ولا تضره السيولة القيمية في الأمم الأخرى.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مفهوم إسلامي أساسي عظمه الشرع، ورفعه من كونه واجب أخلاقي إلى جعله فرض وتكليف ديني

معنى المعروف والمنكر

المعروف: مفعول من عرَفَ وهو الـمَعْلومُ والـمَشْهُورُ بين النّاسِ، أما المنكر غير المُعَرَّف، أَمْرٌ شَدِيدُ الْقُبْحِ، أوكلُّ ما تحكم العقولُ الصحيحةُ بقُبْحِه أَو يُقَبِّحُه الشَّرْعُ.

ومن التعاريف الشرعية أختار تعريف الشيخ محمد أبو زهرة (المعروف هو الأمر الذي تعارفته العقول ولم تختلف فيه الأفهام؛ وهو الذي يكون متفقاً مع الفطرة الإنسانية التي لَا تختلف في الناس، والمنكر هو ما تضافرت العقول الإنسانية على إنكاره وقبحه، وهو مناقض للفطرة الإنسانية. وإن العقول من بدء الخليقة تضافرت على أمور أقرتها، وعلى أخرى أنكرتها..). زهرة التفاسير

وهو تعريف رائع تجاوز فيه المعنى الديني السائد وجعل له بعدا إنسانيا عالميا، ومبدئيا فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مفهوم إسلامي أساسي عظمه الشرع، ورفعه من كونه واجب أخلاقي إلى جعله فرض وتكليف ديني، {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (آل عمران: 104).

وحذر ونبه من عاقبة ومآلات تضيعه على المجتمعات عموما والأفراد خصوصا، ونستطيع أن نلاحظ أنه بمجرد غياب التطبيق العملي لهذا المفهوم في جزئية ما؛ تنتشر الأمراض الإجتماعية وتتكاثر الفيروسات، فيشبه في مفعوله عمل الجهاز المناعي، فمثلا انعدام الحس الجماعي والمسؤولية الأخلاقية في العرف المجتمعي عن ردع الرجل المعتدي على أهل بيته، أدى لانتشار جرائم التعنيف والقتل التي يشيب لها الولدان تحت مسمى الشرف، وغياب المطالبة بالشورى والدعوة إليها بين الناس في عهود خلت أدى لتغلغل الإستبداد والاعتياد عليه، يقول محمد أبو زهرة في كتابه التكافل الاجتماعي في الإسلام: (ولأجل تكوين رأي عام فاضل حث الإسلام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأوجب الإرشاد العام ليمتنع الضال عن شروره ويسير الخير في طريقه).

لكن وعلى الرغم من إيمان الناس بهذا المبدأ وأهميته إلا أن هناك قصورا في تطبيقه من وجوه عدة، إما لخلل في تصور المفهوم، أو لانتشار النزعة الفردية وما يرافقها من الخوف من الأذى المادي أو المعنوي الذي يمكن أن يقع على كاهل من يتصدر له، لذلك قال الله تعالى مذكرا بضرورة الصبر عليه {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} ] لقمان: 17[

لكن بعض الممارسين لهذا المبدأ السامي يدفعون الناس دفعا لأذيتهم وازدرائهم أوتحيدهم وعزلهم بسبب سوء ممارستهم وتطبيقهم له.

الممارسات المغلوطة أدت لنفور الناس سواء ممارسين أو متلقين منه، فالمتلقي بدأ يشعر بحساسية تجاه أي إنسان قد يتوقع منه شيء من التوجيه، والمتدين أصبح يشعر بحالة عزلة من المجتمع المحيط له عزلة يفرضها الأثر الذي سيحدثه وجوده من تقييد لحرية الآخرين

سلوكيات فجة لعمل سامي

من هذه السلوكيات: إلقاء النصيحة بأسلوب غليظ فظ، أو في مكان عام يؤدي لفضيحة المتلقي بدل نصحه، ومنها ما يفعله البعض من التنقيب عن أخطاء الآخرين وابرازها وتضخيمها، والتضيق على الناس فيما توسع فيه أهل العلم من أحكام، ومن ذلك أيضا حالة الهوس التي انتشرت بين الناس في النشر للنصائح والمواعظ والأوامر والنواهي صباحا مساء، ظهرا وعصرا وفي كل الأوقات، بمناسبة أو غيرها، لما هب ودب ما صح وما فسد وما لازم وما لم يلزم تحت هذا البند مما أدى لزهد الناس بها وتبلد أحاسيسهم تجاه هذه المواعظ وإهمالها في كومة المحذوفات.

سياقه وشروطه

ترجع بنا هذه الممارسات وغيرها لضرورة فهم السياق الذي وردت به الآيات والأحاديث التي تحذر من عاقبة التقصير به على المستوى الاجتماعي:

  • في حالة خرق عرف بديهي مجتمعي، فيه اعتداء على الفطرة الإنسانية والأحكام الأخلاقية الثابتة، كما في مثال قوم لوط حيث سادت فاحشة كسرت قيم المجتمع وشوهت فطرته ثم بدأت حالة التطبيع مع المنكر والاعتياد عليه، فجاءت العاقبة وخيمة لما أحدثه ترك إنكار المنكر من خطر جسيم على أخلاقيات المجتمع.
  • حالة شيوع الظلم والقتل والتعدي دون تدخل من المجتمع لردع الظالم والأخذ على يده والوقوف بجانب المظلوم ونصرته، كما قال تعالى في الحديث عن سبب اللعنة التي حلت على بني إسرائيل، {بِمَا عَصَواْ /وَّكَانُواْ يَعتَدُونَ} فانتشر الاعتداء وقتل الانبياء وظلم الضعفاء وانتشرت الفواحش دون ردع أو إنكار، ثم أردف سبحانه واصفا: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}] المائدة: 79[.
  • كذا في حديث السفينة: القائم على حدود الله والواقع فيها، فالواقع كمن يحدث خرقا في سفينة المجتمع فيكسر قيمه، والقائم هم الفئة التي تمنع هذا الانحدار حبا وحرصا.

وعليه فإن مدار الأمر والنهي فيما سبق كان للحفاظ على فطرة الناس من التشوه، والأمن الإجتماعي من المساس، أما ما يحصل من التدخل السافر في خصوصيات الناس، والهيجان الديني لدقائق الأمور وفروع الفقه، وتفريغ العاطفة الدينية المزاجية في الآخرين، وإزعاجهم في شؤونهم باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس إلا قلة فقه، بل قد يكون مرضا نفسيا يدفع بصاحبه للتدخل والتسلط والفضول بحجة الدين.

الممارسات المغلوطة أدت لنفور الناس سواء ممارسين أو متلقين منه، فالمتلقي بدأ يشعر بحساسية تجاه أي إنسان قد يتوقع منه شيء من التوجيه، والمتدين أصبح يشعر بحالة عزلة من المجتمع المحيط له عزلة يفرضها الأثر الذي سيحدثه وجوده من تقييد لحرية الآخرين، مدفوعا بفكرة إسقاط الواجب الشرعي بانكار المنكر بأي طريقة كانت ولو بأضعف صوره(الإنكار القلبي) بغض النظر عن النتيجة المرجوة والأثر المحدث.

لذلك فإن القرآن قد نبه بوضوح إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكون وفق منهجية صحية، وأي خلل فيها سيؤدي حتما لخلل في النتيجة، فلا يكفي أن تفكر باسقاط الفريضة عنك بل عليك أولاً أن تدرك وتحسب وتهتم لمآلات فعلك، كما في الآية {مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ} – ثم أكد – {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}] الأعراف: 164[.

يقول عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: لا يأمر بالمعروف ولا ينهي عن المنكر إلا من اجتمع فيه ثلاث خصال: عالم بما يأمر به، عالم بما ينهي عنه، عدل فيما يأمر به، عدل فيما ينهي، رفيق فيما يأمر به رفيق فيما ينهي عنه.

فصل العلماء في كتب الفقه والتفاسير شروطاً كثيرة حول الموضوع:

  • أولا: أن يكون المنكر حراما، أي مما اتفق على حرمته، كما يقال لا إنكار في مسائل الخلاف.
  • ثانيا: أن يكون هذا المنكر مشاهدا للناس، فهناك منكر خفي ومنكر علني أو ما يسمى العام والخاص، والانكار يختص بالأول ما كان علنيا ظاهرا.
  • ثالثا: ألا يؤدي تغير المنكر لمنكر أكبر منه، اختيارا لأهون الشرين وارتكابا لأخف الضررين.
  • رابعا: على الناهي أن يبدأ بالأهم فالأهم، فمثلا حق العباد مقدم على حق الله، وهناك ما يتعلق بحق الجماعة، وحق الأمة، وحق الدولة.
  • خامسا: إذا علم أنه لا يملك أسلوبا حكيما يؤدي لإيقاف المنكر أو الاتيان بالمعروف فيلتزم أضعف الدرجات وهو القلبي.

يقول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: "لا يأمر بالمعروف ولا ينهي عن المنكر إلا من اجتمع فيه ثلاث خصال: عالم بما يأمر به، عالم بما ينهي عنه، عدل فيما يأمر به، عدل فيما ينهي، رفيق فيما يأمر به رفيق فيما ينهي عنه".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.