شعار قسم مدونات

ابن السبكي ورؤيته الإصلاحية

midan - المماليك
عاصر ابن السبكي دولة المماليك وعاش في الحقبة التي حكم فيها أبناء الناصر محمد بن قلاوون وأحفاده (مواقع التواصل)

هو تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي، يرجع نسبه إلى الخزرج من الأنصار، والسبكي نسبة إلى قرية "سُبك الأحد" التي تقع في محافظة المنوفية حاليا بمصر.

ولد تاج الدين السبكي في القاهرة سنة 728 هجرية في بيت علم وصلاح، تلقى العلم فيه على يد والده تقي الدين السبكي (ت: 756هـ) الذي كان أبرز علماء عصره، ثم على غيره من علماء مصر، ولمَّا بلغ الثانية عشرة من عمره ولي أبوه منصب قاضي قضاة الشافعية في الشام فسافر معه إلى دمشق، وفيها جلس على أبرز علمائها كالذهبي (ت: 748هـ)، والمزي (ت: 742هـ) وغيرهم كثير، "وأجازه شمس الدين بن النقيب بالإفتاء والتدريس، ولما مات ابن النقيب كان عمره ثماني عشرة سنة"، فبرع في شتى العلوم حتى قيل فيه: "لو قدر إمام خامس مع الأيمة الأربعة لكان ابن السبكي"، ولذا كان ابن السبكي يعتبر نفسه في مرتبة الاجتهاد المطلق، وكان قد كتب مرة ورقة لنائب الشام قال فيها: "وأنا اليوم مجتهد الدنيا على الإطلاق، لا يقدر أحد يرد عليَّ هذه الكلمة"، فعقب السيوطي (ت: 911هـ) على ذلك قائلًا: "وهو مقبول فيما قال عن نفسه"، ولم يردَّ أحدٌ على ابن السبكي تلك الدعوى.

تولى ابن السبكي عديدا من المناصب التعليمية والإدارية التي لم تحصل لأحد سواه، وقد قال ابن كثير (ت: 774هـ) في ذلك: "وحصل له من المناصب والرياسة ما لم يحصل لأحد قبله، وانتهت إليه الرياسة بالشام"، وكان من أهم المناصب التعليمية التي وليها: مشيخة عديد من كبريات المدارس في الشام وغيرها، كمدرسة الحديث الأشرفية، والمدرسة التقوية، والشامية البرانية، وغيرها من المدارس كثير.

ترك ابن السبكي خلفه ثروة علمية عظيمة في الفقه وأصوله، وعلوم الحديث، والعقيدة والكلام وغيرها

ثم كان من أهم المناصب الإدارية التي تولاها ابن السبكي وظيفة "موقع الدست" بين يدي نائب الشام علاء الدين المارديني (ت: 749هـ)، ووظيفة القضاء، ثم ترقى إلى منصب قاضي قضاة الشافعية في الشام، وناهيك به من منصب رفيع، ولكنه تعرض في منصب القضاء لمحن كثيرة، فعزل منه 4 مرات، واتُّهم واستدعي إلى القاهرة، وأقيمت له المناظرات، وسجن في قلعة دمشق 80 يومًا، وكان في كل ما مرَّ به من المحن ثابتًا قويًا. قال فيه ابن حجر: "وأبان في أيام محنته عن شجاعة وقوة على المناظرة حتى أفحم خصومه مع كثرتهم، ثم لما عاد عفا وصفح عمن قام عليه"، وقيل إن من أسباب عزله عن القضاء أحكام أصدرها لم تعجب أولي الأمر، وطلبوا منه العدول عنها لكنه أصر عليها، وقيل إنما سجن بسبب تأليفه كتابه "معيد النعم" الذي عرض فيه رؤيته لإصلاح نظام الحكم في دولة المماليك، وقيل غير ذلك.

ترك ابن السبكي خلفه ثروة علمية عظيمة في الفقه وأصوله، وعلوم الحديث، والعقيدة والكلام وغيرها، وكان من أبرز المؤلفات التي تركها بعده كتاب: "جمع الجوامع في أصول الفقه"، و"رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب"، و"الإبهاج في شرح المنهاج"، و"الأشباه والنظائر في فروع الشافعية"، و"السيف المشهور في شرح عقيدة أبي منصور"، و"طبقات الشافعية الكبرى"، وغيرها كثير، ومن مؤلفاته كتابه "معيد النعم ومبيد النقم"، الذي عرض فيه رؤيته الإصلاحية لنظام الحكم في دولة المماليك.

عاصر ابن السبكي دولة المماليك الأتراك (البحرية)، وعاش في الحقبة التي حكم فيها أبناء الناصر محمد بن قلاوون وأحفاده، وكانت حقبة مليئة بالاضطرابات السياسية شاهد خلالها من تقلبات الدهر، وعواصف الفتن والاضطرابات الشيءَ الكثير، ويكفي أن نلاحظ أنه خلال حياته القصيرة التي لم تتجاوز 44 عامًا قد توالى على منصة الحكم 13 سلطانًا، كان فيها السلطان شبه محجور عليه من أمراء الجيش الذين كانوا يعمدون إلى قتل مَن لم يتوافق ومصالحهم من أولئك السلاطين، أو ينقلبون عليه، الحال التي تشي بعظيم الفساد الذي تفشى في الدولة عمومًا.

ثم إن ابن السبكي قد اطلع خلال المناصب التي تولاها على أحوال الدولة والمجتمع عن قرب، وخبر الفساد الذي اعتراهما، ووقف على أسبابه، ثم قدَّم رؤيته لإصلاحه ضمَّنها إجابته عن سؤال كان قد ورده، فصوّر لنا خلالها الحياة السياسة والاجتماعية والاقتصادية في دولة المماليك التي عاصرها.

قال فيه الصادق حسين "وهو -فيما أرى- مصلحٌ لم تعرف مصر من أبنائها آخر من طرازه حتى ظهر الشيخ محمد عبده، فكان فيها الأستاذ الإمام"

قال ابن السبكي مبينًا سبب تقديمه رؤيته الإصلاحية: "فقد ورد عليَّ سؤال مضمونه: هل من طريق لمن سُلب نعمة دينية أو دنيوية، إذا سلكها عادت إليه، ورُدَّت عليه؟" فأجاب السائل عن الطريق بـ3 أمور:

  • أن يعرف من أين أُتي فيتوبُ منه.
  • ويعترف بما في المحنة بذلك من الفوائد فيرضى بها.
  • ثم يتضرع إلى اللَّه تعالى بالطريق التي تذكرها.

ورأى أن هذه الأمور الثلاثة هي: "دواءُ مرضه، ويعقُبها زوال علَّته بعضها مرتَّب على بعض لا يتقدَّم ثالثها على ثانيها، ولا ثانيها على أولها"، ثم إن السائل جاءه طالبًا شرح هذه الأمور الثلاثة شرحًا مبينًا مختصرًا؛ فكتب في ذلك ابن السبكي كتابه: "معيد النعم ومبيد النقم" الذي تحدث فيه عن أول أمرين وفاته ذكر الثالث، وكان أن ذكر في بيان الأمر الأول أن النعم لا تزول سدى، بل لا تزول إلا بالإخلال بواجباتها وهو الشكر، لأن كل نعمة لا تُشكر جديرة بالزوال، وبيَّن أن الشكر يكون بالقلب واللسان والأفعال، وعند حديثه عن الشكر بالأفعال ضرب لذلك أمثلة بذكر الوظائف والمهن، فبدأ بأعلى وظيفة في الدولة وهي وظيفة السلطان، وانتهى بذكر مهنة الشحاذين في الطرقات، وذكر بين يدي ذلك أهم القائمين على مؤسسات الدولة، وبيَّن ما يجب على كل واحد منهم من القيام بشكر نعمة الله تعالى عليه لتدوم له نعمته، وتصلح به حال دولته.

وإن مما ينبغي الالتفات إليه في عرض ابن السبكي لتلك الوظائف أنه كان مستحضرًا استيلاء المماليك على وظائف الدولة الرئيسة، وتركْهم أهل البلد الأصليين عالة عليهم أولًا، ثم إنه قد أبدى خلال عرضه تلك الوظائف انزعاجه من السياسة العامة للمماليك، وحنقه عليهم ثانيًا، ولذا صدرت منه تجاههم كثير من العبارات اللاذعة حتى قيل: إن من الأسباب التي سُجن بسببها ابن السبكي هي كتابه "المعيد"، وقد كان المماليك قد استولوا على عموم وظائف الدولة في مصر والشام، إلا الوظائف التي لا سبيل لإسنادها للمماليك، كالوظائف الدينية مثل القضاء والحسبة ونحوهما.

وإن تناول ابن السبكي لتلك الوظائف بالإصلاح يجعله رجلًا من أكابر رجال الإصلاح في مصر في عصر دولة المماليك، بل في تاريخ مصر كلها حتى قال فيه الصادق حسين: "وهو -فيما أرى- مصلحٌ لم تعرف مصر من أبنائها آخر من طرازه حتى ظهر الشيخ محمد عبده، فكان فيها الأستاذ الإمام".

لم يعمر ابن السبكي طويلًا، فقد أصابه الطاعون في دمشق، فمات به عام 771هـ وعمره 44 سنة، ودفن في مقبرة آل سبكي في سفح جبل قاسيون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.