شعار قسم مدونات

خالد صديق الجميع.. دفين جامعة الخرطوم

انفجارات وقصف في الخرطوم (الجزيرة)

أحقا رقى؟

تُسائل أخت ومهجتها دامعة

رقى والكتاب إلى صدره

ومسبحة خاشعة

وكان كما قد عَهِدْتِ

بشوشًا

وبسمته رائعة

فأين الرفات؟

تجيب الليالي

على حزنها

دفناه في الجامعة

دفين الجامعة

لم يكن أحد من الأصدقاء المحاصرين في الجامعة، أو في داخلية ترهاقا يحسب أن صوت الرصاصة المنطلقة سيهزم ضحكة صديقهم خالد، وأنهم لن يسمروا معه بعدها، لن يأخذهم إلى سماوات المحبة محدثًا إياهم عن سيدنا النبي، خالد عبد المنعم "الطقيع" خرج حاملًا مصحفه ومسبحته ليبحث لأصدقائه عن شيء يفطرون به بعد صيام على وقع القذائف والرصاص. وقريبًا من معهد كونفوشيوس للغة الصينية بجامعة الخرطوم، استقرت رصاصة في صدره صبغت ملابسه البيضاء بالدم، ورقت روحه إلى بارئها وأعيد إلى أصدقائه مقتولًا، غير أن الابتسامة لم تفارق وجهه، الذين حملوه قالوا إن جسده حال بين المصحف والوقوع على الأرض.

منتصف رمضان الجاري، كان خالد لامع الحضور في الإفطار الذي ضمته كلية الآداب ونظمه خريجوها، سأله أحدهم: "متى ستسافر إلى قريتكم؟" فأجابه: "سأظل في داخلية الطلاب، وسأقضي العيد في الخرطوم"، فرد صديقه ضاحكًا: "ستموت في هذه الداخلية". ضحك الجميع واتفق مع صديقه أبو بكر عيسى على أن يقضي العيد معه في الخرطوم بحري، أبو بكر تذكر وقتها سنوات كانت لياليها في الداخلية لطيفة السمر، لكنه تذكر بقوة الرصاص الذي باغتهم في خواتيم رمضان قبل 4 سنوات في فض الاعتصام، ولم يكن يظن أن الرصاص سيعلو صوته من جديد وفي خواتيم رمضان أيضا، لكن في هذه المرة لم يكن قريبا من صديقه.

في داخلية ترهاقا، لم تصمت هواتف الطلاب: "مات خالد"، "الطقيع مات". الجامعة وداخليتها لا يحول بينهما وبين القيادة العامة للقوات المسلحة حائل، فهي أكثر المناطق اشتعالا، الجامعة غربي القيادة وعلى امتداد شارع الجامعة في غربها يقع القصر الجمهوري، الرصاص يلعلع وخالد مسجّى، ما من كفن، ما من طريقة لستر الجثمان، بالكاد يفطر الطلاب المحتجزون. النداءات على مواقع التواصل لا تكف؛ تم إخطار إدارة الجامعة، والهلال الأحمر، وأهله في ولاية الجزيرة في القرية التي حمل اسمها "الطقيع"، الذين هم بلا حول ولا قوة، لكن من يستطيع أن يقدم شيئا وسط هذا القتال!

تشرق شمس الأحد ويكاد الدخان يحجبها، المحاولات مستمرة، كل بادرة ظنها الأصدقاء قتلتها المدافع، إدارة الجامعة تحاول جهدها وكذا الهلال الأحمر، لا أحد يستطيع الاقتراب، ثم يُعلن عن مسارات آمنه بين الرابعة والسابعة مساء، يجهز الأصدقاء كفنًا في الخرطوم، وكفنًا آخر في بحري؛ فهم لا يعلمون الاتجاه الذي سيسمح لهم فيه بحمل الجثمان.

يذهب الطلاب للارتكاز العسكري الأقرب فيوافقون، ويتقدمون للطرف الآخر من الصراع يستأذنونهم في حمل الجثمان، لكنهم يقابلون بالرفض: "غدا صباحًا، أم الآن فلا!"، فيعلم الطلاب حينها أنه ما من مسارات، وما من أمن.

خالد مسجى، ولا يستطيع أصدقاؤه دفنه! ولا يستطيع بقيتهم -وما أكثرهم- من إلقاء نظرة الوداع، رصاصة تسكن صدره منذ السبت، وها هو يوم الاثنين تنقضي ظهيرته، محاولات فاشلة يوافق طرف ويرفض الآخر، الدعوات لخالد واللعنات للحرب، وفي ثالث أيام الحرب، في ثالث يوم لمقتل خالد، تبلغ إدارة الجامعة الطلاب المحتجزين المتواصلين معها بأن يدفنوا خالد في حرمها.

يحفر الطلاب مساء الاثنين قبر زميلهم في حرم جامعة الخرطوم، الدموع تبلل القبر، بلا كفن وبقلة من المشيعين، يدفن خالد حيث أحب، وما زال القتال في الخرطوم، وما زالت قلوب وقصائد تحوم حول قبر بلا شاهد، قبر بجامعة الخرطوم حبيبته التي ضمته. ولا يزال الرصاص يلعلع في الخرطوم وأعداد الموتى في ازدياد، والجثامين في الطرقات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.