شعار قسم مدونات

دور الصحافة المطبوعة في التأثير على العلاقات الدولية

الروبيو بين الكتب والمجلات والجرائد.
نجاح الصحافة في بناء علاقتها مع الجمهور يقوم على قواعد المصداقية والثقة وجودة المضمون (الجزيرة)

كانت الصحافة المطبوعة أهم وسائل الاتصال الجماهيري التي استخدمتها أميركا وأوروبا في بناء قوتها الناعمة والتأثير على الرأي العام خلال القرن الـ20، لكن هل ما زالت الصحافة قادرة على تشكيل اتجاهات الجمهور وبناء صورة العالم خلال القرن الـ21؟

إن الصحافة المطبوعة تعيش أزمة تتزايد حدتها نتيجة لتناقص التوزيع ودخل الإعلانات، مما أدى إلى توقف الكثير من الصحف أو اندماجها مع صحف أخرى، أو التحول إلى الإصدار الإلكتروني.

ومعظم الباحثين يفسرون ذلك بأنه كان نتيجة طبيعية لتطور ثورة الاتصال، وتحول الناس للحصول على الأخبار من القنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي.

لكن ذلك لا يشكل تفسيرا متكاملا، فهناك عوامل أخرى ساهمت في تشكيل الأزمة، من أهمها أن الصحافة فقدت قدرتها على تقديم تغطية شاملة ومتكاملة للأحداث، والوفاء بحق جماهيرها في المعرفة، وإدارة المناقشة الحرة بين الاتجاهات السياسية والفكرية.

لذلك لم تستطع الصمود أمام وسائل إعلامية أكثر سرعة وتفوقا في تغطية الأحداث، وتقديم المعلومات والصور مثل قنوات التلفزيون والمواقع الإلكترونية.

الصحافة تحتاج إلى تطوير وظائفها، وبناء صورة جديدة لنفسها في أذهان الجماهير، والكفاح ضد القيود التي فرضتها السلطات والشركات الرأسمالية عابرة القارات

الحاجة إلى تفكير جديد

لذلك فإن إحياء الصحافة المطبوعة، وبناء مستقبلها يحتاج إلى تفكير جديد، وإجراء استطلاعات رأي عام بأساليب علمية تضمن الحصول على معلومات حقيقية وموثوق بها عن اتجاهات الجماهير.

كما أن الصحافة تحتاج إلى تطوير وظائفها، وبناء صورة جديدة لنفسها في أذهان الجماهير، والكفاح ضد القيود التي فرضتها السلطات والشركات الرأسمالية عابرة القارات، لكي تتمكن من التعبير بحرية عن الجماهير، وتقديم تغطية أكثر عمقا ومصداقية للأحداث.

إن نجاح الصحافة في إعادة تعريف نفسها وتحديد وظائفها، وبناء علاقة جديدة مع الجمهور تقوم على قواعد المصداقية والثقة وجودة المضمون الذي تقدمه يمكن أن يساهم في أن تقوم الصحافة المطبوعة بدور تاريخي جديد في القرن الـ21، وفي بناء القوة الإعلامية للدول.

المضمون الذي تقدمه الصحافة المطبوعة يمكن أن يشكل أساسا لتطوير البرامج التلفزيونية خاصة في مجال مناقشة الأحداث والقضايا التي تهم الجماهير

دور الصحافة في الدبلوماسية

إن الجامعات يجب أن تقوم بدورها في تأهيل جيل جديد من الصحفيين الذين يمكن أن يقوموا بهذه الوظائف الصحفية الجديدة، وتطوير علوم بينية تربط بين الصحافة والسياسة والعلاقات الدولية.

كما أن المضمون الذي تقدمه الصحافة المطبوعة يمكن أن يشكل أساسا لتطوير البرامج التليفزيونية خاصة في مجال مناقشة الأحداث والقضايا التي تهم الجماهير، وتقديم تغطية متعمقة للأحداث.

ومن أهم المجالات التي يجب أن نطور انتاج المضمون الإعلامي فيها دور الصحافة المطبوعة في الدبلوماسية وبناء العلاقات الدولية، فكل دول العالم تتطلع للصحافة الأميركية، وتتابع تغطيتها للأحداث، فهذه التغطية تؤثر على علاقاتها بأميركا وبكل دول العالم الأخرى.

لذلك كان من الضروري الاهتمام بدور الصحافة بشكل عام، والصحافة الأميركية بشكل خاص في بناء العلاقات بين الدول.

ونقطة البداية هي: ما تأثير الصحافة الأميركية على بناء أجندة العالم، وتحديد أولويات القضايا التي يتم مناقشتها في المنظمات الدولية، وفي دوائر صنع القرار في العالم.

وكل دولة تحاول أن تضع قضاياها على هذه الأجندة، وتعتبر أن ذلك يشكل نجاحا لها، لذلك تعمل سفارات الدول في أميركا على الاتصال بالصحفيين الأميركيين لمحاولة التأثير على تغطيتهم للأحداث، وتقوم هذه السفارات بإنفاق الكثير من الأموال للتأثير على الصحافة الأميركية، وإقامة احتفالات يتم دعوة الصحفيين لها.

دور صحافة النخبة في تشكيل العلاقات الدولية

هناك مجموعة من الصحف تقوم بدور قيادي في التأثير على عملية صنع القرار، وتوضيح الاتجاهات العامة للدول، ولذلك يهتم الدبلوماسيون بالعمل على اكتشاف اتجاهاتها، والقضايا التي تهتم بها لأن هذه القضايا تصبح في مقدمة الأجندة الإعلامية.. لماذا؟

إن الصحف في كل أنحاء العالم تتأثر بتغطية صحف النخبة للقضايا العالمية، وتحاول أن تقلد أسلوبها في التغطية وتنقل عنها المعلومات.

وتتمتع هذه الصحف بالقدرة على الوصول إلى مصادر معلومات موثوق بها في الحكومات، وتختار هذه المصادر هذه الصحف، لإمدادها بالمعلومات والتصريحات لأنها تدرك أن الصحف الأخرى سوف تقوم بالنقل عنها، وهذا يوفر إمكانيات كبيرة لاهتمام وسائل الإعلام في العالم بها.

تحتل نيويورك تايمز المكانة الأولى في تصنيف ميريل حيث إن توزيعها يصل إلى قراء يتمتعون بمكانة قيادية في دول العالم

عدد هذه الصحف محدود ولكن

كان جون سي ميريل أستاذ الصحافة بجامعة ميزوري الأميركية أول من اهتم بدراسة دور صحف النخبة في التأثير على الأجندة الإعلامية، وتحديد أولويات العالم.

وقد تضمن تصنيف ميريل 100 صحيفة في كل دول العالم، واعتبرها صحف نخبة تقوم بدور قيادي في الإعلام العالمي، لكنه حدد 40 صحيفة من هذه الصحف باعتبارها الأكثر تأثيرا.

وتحتل نيويورك تايمز المكانة الأولى في تصنيف ميريل حيث إن توزيعها يصل إلى قراء يتمتعون بمكانة قيادية في دول العالم.

يقول ميريل إن أهم ما تتمتع به هذه الصحيفة أنها تقود صحف العالم في تغطية الأحداث، وهناك قدر كبير من الثقة في دقة المعلومات التي تنشرها، وساهم ذلك في بناء سمعة دولية لها، وجعل وسائل الإعلام تقوم بالنقل عنها.

صحف النخبة وإدارة الصراع

وتزداد أهمية صحف النخبة في فترة الصراعات والحروب، حين تشتد حاجة الناس لمعلومات يثقون في صحتها ودقتها.

لذلك أصبحت هذه الصحف من أهم الوسائل التي تؤثر على عملية إدارة الصراعات العالمية..

رغم أن هناك الكثير من الأدلة العلمية على أن صحف النخبة الأميركية والأوروبية قد خضعت لشروط الإدارة الأميركية في تغطية العدوان على أفغانستان والعراق، وقامت بإخفاء الكثير من المعلومات، وعدم تغطية المذابح، والتركيز على الادعاءات الأميركية بأنها حرب بلا موت، ورددت الخرافات الأميركية حول القنابل الذكية، فإن هذه الصحف ظلت تتمتع بقدر من المصداقية والثقة في تغطيتها.

وسائل الإعلام كانت فاعلا في بناء صورة أميركا وتغطية عدوانها على العراق وأفغانستان بما يضمن المحافظة على الصورة الإيجابية لأميركا

كيف ساهمت في بناء صورة أميركا

تقول سيرينا كار بنتر -أستاذة مساعدة بجامعة أريزونا- إن وسائل الإعلام كانت فاعلا في بناء صورة أميركا وتغطية عدوانها على العراق وأفغانستان بما يضمن المحافظة على الصورة الإيجابية لأميركا، وتضيف كار بنتر إن صحف النخبة الأميركية أصبحت مصدرا رئيسيا للأخبار بالنسبة لوسائل الإعلام، وهذا يعني أنها قامت بدور كبير في إدارة الصراع، وفي وضع الأجندة، وقد تجاهلت صحف النخبة الكثير من الأحداث المهمة، وقامت بإخفاء المعلومات عنها، كما اعتمدت بشكل مكثف على المصادر الرسمية، وهذا يعني أن صحافة النخبة الأميركية عملت في إطار الإستراتيجية الأميركية لإدارة الصراع، وساهمت في التأثير على مواقف دول العالم واتجاهاتها نحو العدوان الأميركي على أفغانستان والعراق.

صحف النخبة وبناء قوة أميركا

إن صحف النخبة الأميركية تلعب دورا مهما في بناء القوة الإعلامية، وفي التأثير على الرأي العام العالمي، وعلى اتجاهات الجماهير في الدول المختلفة، فهي مصدر مهم للوسائل الإعلامية تقوم بالنقل عنها، وفي تحويل افتتاحيتها، ومواد الرأي التي تنشرها إلى أخبار وقضايا للمناقشة.

وهكذا تحولت الصحف إلى مصدر للقوة الأميركية، فهي تحدد القضايا العالمية التي تهتم بها وسائل الإعلام في دول العالم، وهي تعرض الرؤية الأميركية لهذه القضايا، وقد لعبت هذه الصحف دورا مهما في الأزمات العالمية، وأثرت على اتجاهات الرأي العام.

ففي دراسته عن دور صحف النخبة الأميركية والصينية في أزمة كورونا يوضح الباحث الصيني كان وو أن هذه الصحف أثرت على تغطية الصحف المحلية لأزمة وباء كورونا، وأنها حددت الزوايا والمعلومات التي تهتم بها وسائل الإعلام في العالم حول الأزمة، وهذا يعني أنها تضع الأجندة لوسائل الإعلام، وأنها صحف قائدة توجه وسائل الإعلام، وتلهم الصحفيين، وتوجههم للاهتمام بأحداث معينة، وبذلك تساهم في بناء الأجندة الإعلامية والسياسية في العالم كله.

تأثير صحف النخبة على بناء العلاقات الدولية أكبر من الصحف ووسائل الإعلام الأخرى التي تستهدف التأثير على الرأي العام بشكل مباشر

قادة الرأي العام والتأثير على النخب

ولذلك يطلق كان وو على صحف النخبة " قادة الرأي العام"، فهي التي تحدد الأجندة الإعلامية، وتؤثر على النخب في كل أنحاء العالم.

وهذا المفهوم الجديد يمكن أن يفتح لنا مجالات لبناء نظريات جديدة "للدبلوماسية الصحفية" وتأثير الصحافة على الرأي العام في الدول الأجنبية، وعلى بناء العلاقات الدولية.

فدراسة دور هذه الصحف يجب أن يتجاوز التأثير المباشر على الجمهور وقادة الرأي في المجتمعات، فهذه الصحف تؤثر على تدفق المعلومات والأنباء والمعرفة إلى الرأي العام عبر وسائل الإعلام.

وبذلك يكون تأثير صحف النخبة على بناء العلاقات الدولية أكبر من الصحف ووسائل الإعلام الأخرى التي تستهدف التأثير على الرأي العام بشكل مباشر.

مصدر للمعلومات والآراء

إن الدولة التي تمتلك صحف نخبة تزيد إمكانيات تأثيرها على وسائل الإعلام في الدول الأجنبية التي تعتمد على هذه الصحف كمصدر للمعلومات والأنباء، كما تقوم بتحويل افتتاحيات هذه الصحف إلى أخبار، باعتبار أنها يمكن أن تكشف اتجاهات الدول ومواقفها من قضايا دولية معينة.

هذا يعني أن صحف النخبة تقوم بوظيفة دبلوماسية، وتشكل اتجاهات صناع القرارات نحو الأحداث، وإدراكهم للأزمات العالمية، وتوفر المعلومات التي يمكن استخدامها في التفاوض مع الدول الأخرى، وإرسال الرسائل لقادة الدول.

مفهوم صحف النفوذ وبناء المكانة العالمية

ظهر مفهوم آخر ليصف هذا النوع من الصحف هو "صحف النفوذ"، وهذا يعني أن هذه الصحف تتمتع بمكانة متميزة في عالم الإعلام والمعلومات.

ولذلك فإن الدولة لكي تزيد قوتها الإعلامية وتتمكن من التأثير على وسائل الإعلام الأخرى لا بد أن تفكر في إنشاء صحف نخبة تتميز بالقدرة على إنتاج نوعية عالية من المضمون، تجعل وسائل الإعلام تثق في صحة ودقة الأخبار والمعلومات التي تنشرها، كما تفتح المجال لنشر مقالات الكتاب الذين يتميزون بالقدرة على تحليل الأحداث، وتوقع مسارها، وتحديد القضايا التي يحتاج العالم إلى إثارة الحوار حولها، وبذلك تتمكن الدولة من التأثير على الأجندة الإعلامية العالمية وبناء علاقاتها الدولية.

إن صحف النفوذ تساهم في بناء المكانة العالمية للدولة عندما تعتمد وسائل الإعلام في العالم على هذه الصحف كمصدر للأخبار والمعلومات والآراء، وتعتمد عليها في معرفة آراء صناع القرارات واتجاهاتهم، ووجود صحف من هذا النوع في دولة معينة يؤهلها لتقوم بدور في المفاوضات والوساطة بين الدول، وتقديم حلول للمشكلات العالمية، لذلك فإن الدول يجب أن تفهم أهمية هذه الصحف، وتحافظ على استقلالها لتتمكن من زيادة مصداقيتها، وتأثيرها على وسائل الإعلام العالمية.

أفكار جديدة لعصر جديد

لذلك تحتاج الدول إلى أفكار جديدة تتناسب مع التحديات التي يواجهها العالم، ويفرض على الدول أن تبحث عن تحالفات جديدة تقوم على أسس التعاون والمشاركة وتبادل المصالح، ولذلك فإن وجود صحف نخبة جديدة تتمتع بالحرية في التعبير عن الشعوب يمكن أن يكون فاعلا في بناء مستقبل العلاقات الدولية.

وإنشاء صحف نخبة جديدة يحتاج إلى دراسة شاملة للإعلام العالمي، ودوره في بناء العلاقات الدولية، وتدفق الأنباء والمعلومات.

فهل يمكن أن تقوم الجامعات العربية بدورها في دراسة دور الصحافة في العمل الدبلوماسي، وبناء العلاقات الدولية والبحث عن حلول جديدة لأزمة الصحافة المطبوعة لاستخدامها في بناء صورة الدولة ومكانتها العالمية؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.