شعار قسم مدونات

ما بين جيلين فجوة تبتلع الحاضر!

متظاهرون يحملون علمًا كبيرًا على شكل بطيخ في محطة شارع فليندرز في ملبورن، أستراليا من أجل فلسطين "
متظاهرون يحملون علمًا كبيرًا على شكل بطيخ في أستراليا من أجل فلسطين (غيتي إميجز)

نعيش في عصرنا الحالي بوادر تحول وارتباك حقيقي في منظومة العالم الغربي أخلاقياً واجتماعياً وقيمياً، هناك فجوة لا تخطئها عين الناظر بين جيل عجنت تطلعاته وتلبست روحه الأفكار الصليبية والاستعمارية، وبين جيل متحرر من عقد الماضي النفسية وحمولته المشوهة، جيل تربى على قيم الحداثة الغربية.

المسافة التاريخية والفكرية بين جيل الأجداد والفكرة الاستعمارية قريبة جداً لم يفصل بينها إلا أنظمة شمولية استبدادية وأجهزة مخابراتية وأيديولوجيا متوحشة، عاينها آباء القرن المنصرم وتشربها من بعدهم أبناء الأمس ممن أضحوا جيل العجائز اليوم، ابتعدت هذه المسافة عن جيل التحرر الذي نشأ على مقولات وأيديولوجيات ثورية تحررية يعدها بديهيات وأبجديات إنسانية، جيل غير معني بالأعباء النفسية التي حملها الآباء في طفولتهم الأولى وبقيت عالقة في ثنايا الروح  تطفو الى السطح مع كل هزة أو منعرج، فلدى هذا الجيل من الاهتمامات ما يغنيه.

ما مارسته هذه المؤسسات من محاولات تشويه متعمد للحقائق لم يكن مفاجئاً، فقد اعتادت لعقود خلت على تدجين شعوبها وشل تفكيرها وإخضاعها بنعومة وبراعة محكمة

عالم مفتوح

تحول الإعلام الغربي الرسمي فجأة لببغاوات عمياء، يردد ما يملى عليه من ساسة خلعوا عن أيديهم القذرة قفازاتهم النظيفة بكل وقاحة وتوحش، تخلت مؤسسات إعلامية عريقة بهذا عن أبسط القواعد المهنية، فالشفافية والصدق والموضوعية والحيادية وتقصي الحقائق وتحيد الآراء الخاصة والتخلي عن الأحكام المسبقة، كلها صارت (بخبر كان).

ما حصل لا يبدو غريباً فيما يتعلق بالعلاقة بين الشرق والغرب، فالإعلام الغربي الرسمي عبارة عن مؤسسات يديرها جيل مثقل بالحمولة الصليبية والاستعمارية، ولم يستطع رغم كل القواعد المهنية التي قررها ليتماشى مع مبادئ الحداثة، أن يلتزم أدناها في حرب اليوم، ردة قيمية تتكرر مع كل حدث يتعلق بعالمنا العربي والإسلامي.

ما مارسته هذه المؤسسات من محاولات تشويه متعمد للحقائق لم يكن مفاجئاً، فقد اعتادت لعقود خلت على تدجين شعوبها وشل تفكيرها وإخضاعها بنعومة وبراعة محكمة، عبر تغذيتها بحقائق مغلوطة وإقناعهم بها وتكرارها والإلحاح عليها لتصبح بديهيات وتتحول لرأي عام جماهيري، لكن ما غفلت عنه هذه المؤسسات في زمن التشبيك أنها لم تعد الصوت الأوحد ولا المصدر المتفرد أو النافذة الوحيدة المفتوحة التي تطل منها الأحداث على الشعوب، لقد فتحت نوافذ بعدد ما في العالم من أجهزة محمولة بأيدي الناس في بقاع الأرض، انفتاحاً لم تشهد له البشرية في تاريخها مثيلاً له، انتشرت الثقوب التي تتدفق منها صور الحقيقة المبثوثة ولم يعد بالإمكان سد هذه القنوات فقد اتسع الرقع على الراقع.

الوعي المستقل والغير مسبوق من الشباب الغربي، الرافض للظلم والقتل لشعوب العالم الآخر، والذي تم التعبير عنه بممارسات سلمية أخذت أشكالاً مختلفة، أصاب قهارمة السياسة بالحنق والجنون فحاولوا عبثاً ردع الشعوب عن التضامن

ما بين جيلين فجوة تتمدد

تبدو الفجوة ظاهرة حين المقارنة على سبيل المثال ما بين العجوز الأميركي ستيوارت سيلدوويتز، الذي عمل مستشارا للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما واعتاد على ممارسات الحقد والكراهية والعنصرية والازدراء لشعوب الشرق، وبين شباب أمريكيين يرتمون في البحر معترضين عبور سفن الأسلحة المحملة لبلاد الشرق والتي تحول المدنيين العزل لقطع لحم متناثرة.

هذا الوعي المستقل والغير مسبوق من الشباب الغربي، الرافض للظلم والقتل لشعوب العالم الآخر، والذي تم التعبير عنه بممارسات سلمية أخذت أشكالاً مختلفة، أصاب قهارمة السياسة بالحنق والجنون فحاولوا عبثاً ردع الشعوب عن التضامن، تجاوز البعض منهم حدوده وحاول استغلال سلطته لكبت الرأي العالم الملتهب، متجاهلين حساسية الشعب تجاه ما يذكره بماضي الحكومات الشمولي الأسود، حساسية أطاحت من فورها بوزيرة الداخلية البريطانية سويلا بريفرمان التي أرادت استخدام منصبها في دولة ديمقراطية لتفرض رؤيتها السياسية على مؤسسات أمنية مستقلة، تعي هذه المجتمعات المسافة الفاصلة بين سلطة الحاكم وواجباته وحدوده وضرورة التزامه باحترام حرية التعبير (فالديمقراطية التي تريد منك ترديد ما يقوله الحاكم ليست ديمقراطية بل مسخرة) كما يقول عزت بيجوفتش. لذلك فإن هذه المسخرة لا تنطلي على جيل رضع من لبن الديمقراطية وشب على قيم التحرر.

فراغ الانتماء الذي خلفته قطيعة الثورة مع الماضي ملأه الأحرار بقيم نبيلة لكن عجائز الاستعمار وصنيعتهم من اليمين المتطرف مازالو يدغدغون مشاعر الجماهير بخطاب عاطفي يثير الأحقاد التاريخية الدفينة

شعبوية تنطح وحرية تنضح

بالرغم من كل المشاهد التي تدعو للتفاؤل، مظاهرات ضخمة، احتجاجات طالت معظم العواصم الأوروبية، أساليب استنكار ورفض مبتكرة ومستمرة، تنديد بأشكال مختلفة، وأثمان مدفوعة متفاوتة بعضها باهض جداً يدفعها الشباب بكل شجاعة وأقدام لإيقاف آلة الحرب التي تطال المدنيين بغزة، إلا أن طريق التغيير لا يبدو ممهداً مزيناً بالورود، فالمجتمعات الغربية مجتمعات فردانية مادية، تسعى لإقامة جنتها على الأرض، وتعصف بها أزمات متلاحقة اقتصادية وسياسية وأمنية، ومشاكل داخلية، كل ذلك يفسح المجال لخطاب شعبوي يثتثار فيه الناس للجنوح أقصى اليمين خوفاً من عدو متوهم يفقدهم جنتهم الأرضية التي عاشوها ردحاً من الزمن، والشعوب التي كانت تثتثار للحروب الصليبية والسلب والنهب الاستعماريين مازال كثير منها يثتثار عبر تحريض نزعة الإسلام فوبيا داخلياً وخارجياً، فراغ الانتماء الذي خلفته قطيعة الثورة مع الماضي ملأه الأحرار بقيم نبيلة لكن عجائز الاستعمار وصنيعتهم من اليمين المتطرف مازالو يدغدغون مشاعر الجماهير بخطاب عاطفي يثير الأحقاد التاريخية الدفينة، خير من وصف الحالة الغربية وعلاقتها بالمسلمين المفكر النمساوي محمد أسد وعن هذا يقول: (إن العالم الغربي اليوم لا يزال تائهاً تماماً في إجلال الإنتاج الماضي وفي الاعتقاد أن الرفاهية، والرفاهية وحدها، إنما هي الهدف الذي يستحق أن يكدح الإنسان إليه. إن مادية الغرب وجحوده للتوجيه الديني في التفكير يزيدان كل يوم قوة ولا ينقصان كما يظن بعض المتتبعين لهذه القضية من المسلمين المتفائلين، أما خير وسيلة يجب أن يلجأ إليها المسلمون حتى يحملوا العالم الغربي على احترامهم فهي أن يكونوا أقوياء)

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.