شعار قسم مدونات

فلسفة الأصدقاء ومنزلتهم

الصديق الذي يكون كالركن إليك هو من لازمك وانتقل معك عبر مراحل النمو المختلفة (بيكسابي)

لما كانت علاقة القرابة لا تملأ كل ذات الإنسان الذي يحتاج إلى من يكون قريبا منه في الفكر وفي المشاعر، كان بحاجة إلى الصديق ليؤدي هذا الدور الذي قد لا يؤديه القريب، ولهذا قيل لبزرجمهر: من أحب إليك: أخوك أم صديقك؟ فقال: ما أحب أخي إلا إذا كان لي صديقا، وكذلك قال أكثم بن صيفي: القرابة تحتاج إلى مودة، والمودة لا تحتاج إلى قرابة.

وقد جاءت كلمة الصديق في القرآن مرتين فقط، في الأولى لتشريع جواز الأكل من بيت الصديق واعتباره في مكانة تداني الأقارب، وذلك في قوله تعالى ﴿ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم..﴾ (النور61)، ودلت الآية على أنه لا حرج عليك أن تأكل من بيت ابنك، أو أبيك، أو أمك، أو أخيك، أو أختك، أو عمك، أو عمتك، أو خالك، أو خالتك، أو أن يعطيك صاحب البيت مفتاح بيته، فلك أن تأكل إن أردت، أو أن تأكل من بيت صديقك. فلا جناح عليك في الأكل إذا علمت أن ذلك لا يشق عليهم ولا يكرهون ذلك.

والشاهد هنا أن الشارع جعل الصديق في مرتبة القرابة، وقد أشار أبو السعود في تفسيره "إرشاد العقل السليم" إلى منزلة الصديق، عند تفسير قوله تعالى: ﴿أو صديقكم﴾ بقوله: وإن لم يكن بينكم وبينهم قرابة نسبية فإنهم أرضى بالتبسط وأسر به من كثير من الأقرباء.

وجدير بالإشارة أن كلمة ﴿أو صديقكم﴾ وردت بصيغة المفرد في هذه الآية، وجاء ما قبلها بصيغة الجمع: كبيوتكم، آبائكم، أمهاتكم.. إلخ إلا في الصديق فقال ﴿أو صديقكم﴾ ولم يقل "أصدقائكم" ويعلل الشعراوي ذلك بأن كلمة صديق مثل كلمة عدو تستعمل للجميع بصيغة المفرد، كما في قوله تعالى ﴿فإنهم عدو لي..﴾ [الشعراء: 77] لأنهم حتى إن كانوا جماعة لابد أن يكونوا على قلب رجل واحد، وإلا ما كانوا أصدقاء، وكذلك في حالة العداوة نقول عدو، وهم جمع، لأن الأعداء تجمعهم الكراهية، فكأنهم واحد.

والمرة الثانية التي وردت فيها كلمة الصديق في القرآن الكريم، حين جاءت في وصف حال المشركين في النار وهم يصرخون ﴿فما لنا من شافعين ولا صديق حميم﴾ [الشعراء: 100- 101] وللشعراوي أيضا كلام جميل حيث يتحفنا بالفرق بين الشافع والصديق، فالشافع لابد أن تطلب منه أن يشفع لك، أما الصديق وخاصة الحميم لا ينتظر أن تطلب منه، إنما يبادرك بالمساعدة.

وبما أنه وصف الصديق بأنه حميم، فدل ذلك على أن الصداقة وحدها في هذا الموقف لا تنفع حيث كل إنسان مشغول بنفسه، فإذا لم تكن الصداقة داخلة في الحميمية فلن يسأل صديق عن صديقه، كما قال تعالى: ﴿يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه﴾ [عبس: 34-37].

ويستدل ابن عباس رضي الله عنه بهذه الآية على أن الصديق أكبر من الوالدين، ذلك إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات، بل قالوا "فما لنا من شافعين ولا صديق حميم". وأما قتادة فيقول "يعلمون والله أن الصديق إذا كان صالحا نفع، وأن الحميم إذا كان صالحا شفع".

وتتبين -مما سبق- أهمية الأصدقاء ومنزلتهم الاجتماعية والنفسية، والشرعية. وفي سبيل ذلك جاءت الشريعة الإسلامية حاثة على التآخي، وتقوية الصلات والروابط بين الأصدقاء، وبيان تأثير الأصدقاء على بعضهم البعض، وقد روي عن النبي ﷺ «الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل».

وبالنظر إلى ما سبق، يصبو الكاتب إلى تسليط الضوء على فلسفة منزلة الأصدقاء في خضم معمعة تجارب الأصدقاء، ما بين انحدار العلاقة والبدء بها من جديد، وما بين تغير رتب الأصدقاء ومنازلهم، فالصديق الذي يكون اليوم أقرب من الأقرباء قد يكون غدا كسائر الناس، وهو ما يثير التساؤل حول ماهية فلسفة منزلة الأصدقاء.

فبعد مروري بمحطات قطار الأصدقاء من الترحال والسفر، أستطيع أن أقول إن منزلة الأصدقاء شبيهة بصفة الصلاة فهي مشتملة على الأركان، والواجبات، والمستحبات، والمكروهات، والمحرمات في الصلاة. وقد ذهب فقهاء الحنابلة إلى أن الركن في الصلاة لا يسقط عمدا ولا سهوا ولا جهلا، بل لابد من الإتيان به ولا يجبر بسجود السهو، أما الواجب فيسقط بالجهل والنسيان، ويجبر بسجود السهو وتركه عمدا يبطل الصلاة. وأما السنن فلا تبطل الصلاة بترك شيء منها ولو عمدا، ولكن يباح أن يسجد لسهوه عنها. وأما المكروهات، فلا تبطل الصلاة بفعلها، ولكن يستحب أن يسجد سجود السهو إذا فعل شيئا منها، وأما المحرمات فتبطل الصلاة بفعلها.

وعلى ضوء ذلك يكون الأصدقاء كالأركان، والواجبات، والمستحبات، والمكروهات، والمحرمات، فالصديق الذي يكون كالركن إليك هو الصديق الذي لازمك وانتقل معك عبر مراحل النمو المختلفة في جميع جوانب الحياة، من الجانب الأسري، والمهني، والاجتماعي، والنفسي، ويساهم في تطورك، ويتنبأ بتصرفاتك، ويضبط سلوكك.

وذلك ما يتمثل في قول بعضهم إن الصديق وهو من يصدقك في مودته وتصدقه في مودتك، يؤلمه ما يؤلمك ويحزنك ما يحزنه ويسرك ما يسره كذلك. ولتبسيط ذلك، فإن الصديق الركن لو تصفحت ألبوم الصور لرأيته معك أينما كنت، في المناسبات، والعزاء، والحضر، والسفر، مع أبنائك وأخوتك، وأصحابك.

يقول جعفر الصادق: من عظم حرمة الصديق أن جعله الله تعالى من الأنس والثقة والانبساط، ورفع الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ. وكذلك يقول هشام بن عبد الملك: نلت ما نلت حتى الخلافة وأعوزني صديق لا أحتشم منه.

وبناء على ذلك شبهنا هذا النوع من الصداقة بركنية الصلاة، حيث لا تقوم الصلاة بدونه، ولا تنجبر الصلاة بسجود السهو، وكذلك هذا الصديق لا تقوم العلاقات الاجتماعية إلا بوجوده، ولا يحل محله آخر. ولكن هناك نوع من الصداقة يكون فيه الصديق ملازما لك ومقربا لديك في جانب معين من جوانب الحياة، وأما في الجوانب الأخرى فلديك صديق أو أصدقاء مقربون أكثر منه.

لتوضيح ذلك قد يكون لديك صديق عزيز ومخلص وتفضله على الأصدقاء الآخرين، في مجال الدراسة والعلم فقط، أما في الجوانب الأخرى كالسفر، والرياضة، والمناسبات الاجتماعية، فلا يصلح، وقد يكون لديك أصدقاء آخرون بهذا المجال مقربون لك أكثر منه، تسافر معهم، وتتجنب أن تسافر معه، أو ليس لديه ذكاء اجتماعي بحيث يتماشى مع ذوقك الاجتماعي، مكتفيا بذكائه العلمي.

والشيء بالشيء يذكر، قد يكون لديك صديق في العمل مقرب وصاحب مروءة، ولكن بمجرد أن تسافر معه أو يسهر معك في المجلس تدب المشاكل بينكما، وهذا نوع من الصداقة شبيه بالواجب في الصلاة، فيسقط بالجهل والنسيان، ويجبر بسجود السهو، وكذلك هذا النوع من العلاقة يجبر بصديق آخر، ولو في إطار الصداقة التي تجمعكم كالدراسة، مثلا، أو لعب الورق، أو صداقة عمل.

أما توسيع محيط الصداقات في كافة المجالات فهو من باب الكمال، ولا يضرك ترك توسيعها، ولهذا شبهت هذا النوع من الصداقة بإتيان المستحبات في الصلاة، فلا تبطل الصلاة بترك شيء منها ولو عمدا، وأما صحبة الأصدقاء المتشائمين، والمتذمرين، والمحبطين، فيفضل عدم مصاحبتهم وتركهم، واستبدالهم بغيرهم، وهو شبيه بفعل المكروهات في الصلاة ككثرة التحرك، وأداء الصلاة في أماكن تلهيك عن الخشوع، فإتيان هذه المكروهات لا تبطل الصلاة به، ولكن يفضل تركها.

وكما أن فعل المكروهات في الصلاة يستحب أن تجبر الصلاة بعده بسجود السهو، فكذلك مصاحبة هؤلاء تسود قلبك، وتصيبك بإحباط في بعض الأحيان، وربما أثروا على حسمك في اتخاذ قراراتك. وأما المحرمات التي تهدم الصداقة، أو تحرم صداقة هؤلاء، كالحسد، والغيرة، والغيبة، والنميمة، والتنافس المكروه، ونحو ذلك، فالحسد مثلا بين الأصدقاء يهدم العلاقة، مما يولد البغضاء بينهم.

يقول الحسن: ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد: نفس دائم، وحزن لازم، وغم لا ينفد، وكذلك قال: يحسد أحدهم أخاه حتى يقع في سريرته وما يعرف علانيته، ويلومه على ما لا يعلمه منه، ويتعلم منه في الصداقة ما يعيره به إذا كانت العداوة، والله ما أرى هذا بمسلم. سئل بعض الحكماء: أي أعدائك لا تحب أن يعود لك صديقا؟ قال: الحاسد الذي لا يرده إلى مودتي إلا زوال نعمتي.

وكذلك الحال مع الغيرة، يحكى أن سليمان بن عبد الملك مفرط الغيرة، فسمع مغنيا في عسكره، فقال: اطلبوه! فجاؤوا به، فقال له: أعد ما تغنيت به. فأعاد واحتفل، فقال لأصحابه: والله لكأنها جرجرة الفحل في الشول، وما أحسب أنثى تسمع هذا إلا صبت إليه! ثم أمر به فخصي. هذا النوع من العلاقة بين الأصدقاء القائمة على الحسد والغيرة، ونحو ذلك باطلة، فإن قامت سرعان ما تنهدم، وهو ما شبهته بالمحرمات في الصلاة حيث تبطل الصلاة، ولا تنجبر بسجود السهو.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.