شعار قسم مدونات

التواصل الممنوع!

كراهية النساء، التحرش A businesswoman stands with her head buried in her hands as she tries to withstand the stress of gender or workplace discrimination from her much larger boss.
من غير الصحي أن يشعر الرجل إنْ وقف أمام أي امرأة أنها مصدر فتنة وسهلة الاصطياد (غيتي إيميجز)

أعطته زميلته في الصف ورقة، فأخذها ومزقها من فوره قبل أن يقرأ ما فيها، ثم وضعها تحت قدميه إمعانا منه في الرفض لأي تواصل من الجنس الآخر معه.

تصرف قام به طفل صغير لم يتجاوز السنة الرابعة الابتدائية من عمره ووعيه، استلهم فعله من تعاليم البيئة حوله، معتقدا أن هذا هو الواجب الديني والأخلاقي البديهي في التعامل مع الأنثى حوله.

إنه التوجس، الشك، الاتهام، العلاقة المحرمة غير المهذبة، التواصل الممنوع، الإغواء المفترض، الفتنة الحاضرة، كل هذه الأفكار تزرع في أذهان الناشئة في بعض البيئات المحافظة التي تربي أبناءها وبناتها على رفض وحرمة التواصل بين الجنسين مطلقا، وأنه من الأخلاقيات الدينية المقدسة، بغض النظر عن سبب هذا اللقاء والتواصل، فالأصل العام لديهم: أن ذلك "معيب" و"محرم" لكنه قد يحصل لحالات الضرورة القصوى جدا، فالأصل المنع والجواز استثناء. هذا التصور هو قلب للقاعدة الشرعية، وهي أن الأصل في لقاء النساء بالرجال وتواصلهما "الإباحة، مع الاحتياط بالضوابط المشروعة للطرفين"، لكنه قد يحرم في حالات، وشتان بين المنطلقين وما ينتج عنهما!

قد يرى البعض أن هذا التأصيل ما هو إلا دعوة للفساد والتفلت، وذريعة "لطق الحنك"، وفتح لباب الرذيلة الذي يحاول أهل الفضيلة إغلاقه بشتى السبل والوسائل.

من المهم ملاحظة أن قولنا "الأصل الجواز"، لا يعني الوجوب أو المباشرة بغير حاجة.

تفرُّ مجتمعاتنا من مرض التفلت، لتقع في مرض التنطع، وكلاهما خطأ، فمحل الحرام كمحرم الحلال، قال تعالى: "وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ".

هذه البيئات التي تميل فيها الكفة تخلق في المجتمع حالة إرباك، وتحرم الأمة من حسن الاستثمار لطاقات النساء والرجال على ما فيها من اختلاف وتكامل وضرورة حتمية تفرضها طبيعة خلق الله تعالى للجنسين. فكما أن التفلت والتخالط بين الرجال والنساء دون ضوابط أخلاقية ودينية هو حالة مرضية، فإن التوجس والخيفة ورفض التعامل مع النساء بالمجتمع الخارجي وتواصلهن مع الرجال إلا للضرورة القصوى فهو حالة مرضية أيضا.

من غير الصحي أو الطبيعي أن يشعر الرجل إن وقف أمام أي امرأة أنها مصدر فتنة وإثارة له، أو أنها فريسة سهلة الاصطياد والانقياد، أو أن ترتبك المرأة أمام رجل أراد محادثتها لأمر ما، سواء في الدراسة أو العمل أو لأمر من عوارض الحياة التي لا تحصى، فتخجل وتتهرب أو تصرخ بوجهه أو تعتقد أنه يريد من محادثتها إرواء غرائزه تجاه الأنثى، أو تشعر هي في نفسها أنها مصدر غواية دوما ويجب عليها أن تبتعد عن الرجال فلا تتحمل وزرهم أو تفتتن بهم!

النساء شقائق الرجال

"النساء شقائق الرجال"، هذه هي القاعدة الذهبية التي خطها الإسلام في العلاقة بين الرجل والمرأة.

ينظر الرجل للمرأة وتنظر له نظرة الولاية الإيمانية، والأخوَّة الدينية، نظرةً تفيض شهامةً ونبلا. يغار الرجل على نساء المسلمين كما يغار على أخته، وتطمئن المرأة للمسلم كما تطمئن لأخيها، وهذه القاعدة أساسية في النظرة للمسلم عموما رجلا كان أو امرأة، فالأصل في المسلم "براءة الذمة"، مما يولد الهدوء والثقة، ويؤدي لتحييد الأفكار والنوازع والوساوس المسيئة.

إنها إحسان للظن دون غفلة، وصحوة دون وسوسة واتهام، تكملها وتوجهها قواعد أخلاقية عامة شرعها الإسلام لتضبط هذه العلاقة عن الفتنة والانحراف الشهواني الذي قد يحصل من الاحتكاك بينهما، فأمر كليهما بغض البصر، وبأدب الحديث، وعدم الخضوع بالقول، وأمر المرأة بالحجاب الإسلامي الخاص بها والرجل بالستر الذي يراعي أخلاقيات المجتمع، وحذرهما من الخلوة.

وهكذا فإن التكليف اعتنى بتهذيب الرجل والمرأة، لكن ما يفعله الكثير من الناس اليوم أنه يعفي الرجل ويبرر انحرافه لو حصل متذرعا بفطرته تجاه الأنثى، ويقوم بتحميل المرأة المسؤولية الأخلاقية منفردة، من خلال الاستحضار الدائم لفكرة أن المرأة وأنوثتها مصدر إغواء يجب إخفاؤه ودفنه حتى لو أدى لعزلتها، بدل الانشغال بما يجب أن ينشغل به الذهن والقلب من واجبات وهموم تمس التكليف الإنساني للمسلم.

يقول الشيخ محمد الحسن ولد الددو حفظه الله تعالى: (إذا أتينا بكل الاحتياطات الشرعية من غضٍ للبصر، وعدم الخضوع بالقول، وعدم الكلام في الريبة، وعدم الخلوة؛ إذا أتينا بكل هذه الاحتياطات الشرعية فاحتياطاتنا أكثر من ذلك لا معنى لها، فالشارع أدرى وأعلم منا، فما شرعه الشارع هو الاحتياط، وأكثر من ذلك هو من المبالغة في سد الذرائع).

المجتمع النبوي بين الصورة المتخيلة والواقع

لعل نظرة فاحصة وقراءة دقيقة لآيات القرآن الكريم التي تناولت علاقة النساء بالرجال مع ما كان عليه مجتمع الإسلام في العهد النبوي، تشرح لنا خطأ التصور حول الحالة المثالية المطلوبة للعلاقة، بين ما يعتقده الناس من تصورات رسمتها أحاديث الوعاظ وتقاليد المجتمعات، وبين ما كان يحصل ويعبّر عن الصورة الواقعية الصحية، وفي هذا السياق أستعرض بعض الأمثلة:

  • النبي صلى الله عليه وسلم إذ يدعو أسماء لتركب خلفه

تقول أسماء بنت أبي بكر وقد كانت زوجة الزبير رضي الله عنهم جميعا (فجِئْتُ يومًا والنَّوى على رأسي، فلقيني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومعه نفرٌ مِن أصحابِه، فدعاني، ثمَّ قال: "إِخْ.. إِخْ" لِيحمِلَني خلْفَه. قالت: فاستحيَيْتُ أنْ أمشيَ مع الرِّجالِ، وذكَرْتُ الزُّبيرَ وغَيرتَه وكان أَغْيرَ النَّاسِ، قالت: فعرَف رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنِّي قد استحيَيْتُ، فمضى، فجِئْتُ الزُّبيرَ فقُلْتُ: لقيني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعلى رأسي النَّوى ومعه نفرٌ مِن أصحابِه، فأناخ لأركَبَ معه فاستحيَيْتُ وعرَفْتُ غَيرتَكَ، فقال: واللهِ لَحَمْلُكِ النَّوى كان أشدَّ عليَّ مِن ركوبِكِ معه).

  • عمر يمازح أسماء بنت عميس في بيت ابنته، وما تلاه من ورود الرجال المهاجرين عليها لسماع الخبر: في الحديث المشهور 

(ودَخَلَتْ أسْمَاءُ بنْتُ عُمَيْسٍ، وهي مِمَّنْ قَدِمَ معنَا، علَى حَفْصَةَ زَوْجِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ زَائِرَةً، وقدْ كَانَتْ هَاجَرَتْ إلى النَّجَاشِيِّ فِيمَن هَاجَرَ، فَدَخَلَ عُمَرُ علَى حَفْصَةَ، وأَسْمَاءُ عِنْدَهَا، فَقالَ عُمَرُ حِينَ رَأَى أسْمَاءَ: مَن هذِه؟ قالَتْ: أسْمَاءُ بنْتُ عُمَيْسٍ، قالَ عُمَرُ: الحَبَشِيَّةُ هذِه، البَحْرِيَّةُ هذِه؟ قالَتْ أسْمَاءُ: نَعَمْ، قالَ: سَبَقْنَاكُمْ بالهِجْرَةِ، فَنَحْنُ أحَقُّ برَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنكُمْ، فَغَضِبَتْ وقالَتْ: كَلَّا واللَّهِ، كُنْتُمْ مع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُطْعِمُ جَائِعَكُمْ، ويَعِظُ جَاهِلَكُمْ، وكُنَّا في دَارِ -أوْ في أرْضِ- البُعَدَاءِ البُغَضَاءِ بالحَبَشَةِ، وذلكَ في اللَّهِ وفي رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وايْمُ اللَّهِ لا أطْعَمُ طَعَامًا ولَا أشْرَبُ شَرَابًا، حتَّى أذْكُرَ ما قُلْتَ لِرَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ونَحْنُ كُنَّا نُؤْذَى ونُخَافُ، وسَأَذْكُرُ ذلكَ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَسْأَلُهُ، واللَّهِ لا أكْذِبُ ولَا أزِيغُ، ولَا أزِيدُ عليه. فَلَمَّا جَاءَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَتْ: يا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّ عُمَرَ قالَ: كَذَا وكَذَا؟ قالَ: فَما قُلْتِ له؟ قالَتْ: قُلتُ له: كَذَا وكَذَا، قالَ: ليسَ بأَحَقَّ بي مِنكُمْ، وله ولِأَصْحَابِهِ هِجْرَةٌ واحِدَةٌ، ولَكُمْ أنتُمْ -أهْلَ السَّفِينَةِ- هِجْرَتَانِ، قالَتْ: فَلقَدْ رَأَيْتُ أبَا مُوسَى وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ يَأْتُونِي أرْسَالًا، يَسْأَلُونِي عن هذا الحَديثِ).

  • سلمان حين يسأل عن أحوال زوجة أخيه في الله

آخى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بينَ سَلْمانَ وبينَ أبي الدَّرْداءِ، فزار سَلْمانُ أبا الدَّرْداءِ، فرأَى أمَّ الدَّرْداءِ متبذِّلةً، فقال: ما شأنُكِ متبذِّلةً؟! قالتْ: إنَّ أخاكَ أبا الدَّرْداءِ ليس له حاجةٌ في الدُّنْيا. قال: فلمَّا جاء أبو الدَّرْداءِ، قرَّبَ إليه طعامًا، فقال: كُلْ، فإنِّي صائمٌ. قال: ما أنا بآكلٍ حتى تأكُلَ. قال: فأكَلَ، فلمَّا كان الليلُ ذهَبَ أبو الدَّرْداءِ ليقومَ، فقال له سَلْمانُ: نَمْ، فنام، ثمَّ ذهَبَ يقومُ، فقال له: نَمْ، فنام، فلمَّا كان عندُ الصُّبْحِ، قال له سَلْمانُ: قُمِ الآنَ، فقاما فصلَّيَا. فقال: إنَّ لنفسِكَ عليكَ حقًّا، ولربِّكَ عليكَ حقًّا، ولضَيفِكَ عليك حقًّا، وإنَّ لأهلِكَ عليكَ حقًّا، فأَعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فأَتَيا النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فذَكَرا ذلكَ؟ فقال له: صدَقَ سَلْمانُ.

هذه بعض الأمثلة الفاقعة من الوقائع الكثيرة التي تعبر عن حالة المجتمع الطبيعية التي يتواصل بها الرجال والنساء بعفوية دون الوقوع في أوهام الفتنة المتخيلة، والشك المتراود، والاتهام المتبادل والخوف المرضي. وقد جمع الأستاذ عبد الحليم أبو شقة في موسوعته تحرير المرأة في عصر الرسالة وقائع كثيرة جداً بلغت بمجموعها مبلغ التواتر في دلالتها على إباحة ذلك.

قد يقول قائل لكن هذا المجتمع كان مجتمع خير القرون، ثم إن الله تعالى أمرنا أن نراعي العرف: "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ".

والحقيقة أنه لم يخلُ مجتمع من الرذيلة، حتى مجتمع المدينة وبين ظهرانيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان فيه الكفار والمنافقون والفساق، ومن يأتي للمدينة من خارجها ويقيم فيها فلم يكن خاليا من أسباب وحوادث الفتن، وقد روت السنة حوادث كثيرة حول ذلك، ومع ذلك عاش الرجال والنساء فيه هما واحدا وهدفا واحدا، وكان هاجسهم الأساسي وهمهم الأكبر الإسلام ونصرته، بالإضافة أن مهمتنا كمسلمين تطويع العادات والتقاليد لتنسجم مع أحكام الإسلام وتتمثل سلوك المجتمع النبوي، وليس العكس: الاستسلام للعادات والتقاليد ثم تطويع النص ليقوم بخدمتها، وقدوتنا في ذلك هدي القرآن الكريم وما ورد في السيرة النبوية، لمعالجة الأمراض الاجتماعية في عصرنا دون تنطع، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.