شعار قسم مدونات

قصتي مع النظارة

المبادرة وزعت 260 الف نظارة طبية مجانا
الكاتب: فرضت علي النظارة وأنا ابن 10 سنين ولبستها وأنا في الـ20 (الجزيرة)

إن ذاكرة الإنسان مختزنة لكثير في مخابئها، متأهبة للفظ ما فيها، فلا تحتاج إلا إلى واقعة مشابهة أو شيء ما يمتّ بصلة، فتتمثل الماضيات أمام الناظرين.

كنت أتأمل حياة الدكتور أحمد أمين، اجتذبني حديثه عن نظارته حين قال "لقد كانت أمي قصيرة النظر فورثت عنها قصر النظر، ولقيت من عنائه في حياتي الشيء الكثير، فإذا تقدمت للدخول في دار العلوم حرمت من ذلك لقصر نظري، وإذا تقدمت للدخول في مدرسة القضاء فكذلك إلى أن تحدث معجزة. وإذا أريد تثبيتي في وظيفة سقطت في امتحان النظر، ولم أثبت إلا بمعجزة أخرى. وتحدث أحداث كثيرة مخجلة وغير مخجلة نتيجة لقصر نظري. فقد لا أسلّم على أحد يجلس بعيدا عني فيظن بي الكبر، وقد أكون على موعد في مقهى فأدخل ولا أرى من وعدتهم إلا أن يروني. وقد أمرّ في الشارع على من أنا في حاجة إليه، فلا أراه. وقد أحب أن أذهب إلى السينما أو التمثيل للاسترواح فلا أذهب، وهكذا من أحداث سيئة لا تحصى صادفتني في حياتي إلى أن اضطررت في شبابي إلى أن ألبس نظارة، وكنت من سنة إلى أخرى أغير النظارة بأخرى أسمك منها، حتى صارت في آخر الأمر نظارة سميكة جدا، واعتادت عيني هذه النظارة. وكانت لها كذلك سيئات؛ فإذا كسرتها أو نسيتها في البيت صرت كأني أعمى. وقد رأيتني في ما بعد أحتاج إلى نظارتين، نظارة للقراءة ونظارة للسير والعمل. ولا تسأل عن متاعب ذلك".

صراحة لم أعان مثلما عانى صاحبنا، ولم أرث عن أمي قصر النظر، بل عن عماتي كما قلن لي مرارا متوددات إلي.

كان أصحاب النظارات مادة دسمة للتندر في طفولتي، وتخلع عليهم أوصاف عجيبة، لها أسباب، ولم تكن النظارات متنوعة التصاميم ولا جذابة المنظر، وكان يربطها خيط عجيب، يستغبي من كان يلبسه، ولهذا كنت أكرهها كرها شديدا.

فرضت علي النظارة وأنا ابن 10 سنين، ولبستها وأنا في الـ20، ما زلت أذكر المرة الأولى التي زرت فيها طبيب العيون. ساقتني أمي الحنون إليه، كانت بسمته الحلوة تضفي الجمال على وجهه الحسن، فحصني بدقة، وقدم إلي بطاقة فيها تفاصيل دقيقة عن عيني ووعدني بأن النظارة ستصل بعد حين.

لسعني الانتظار وجعلني أفعل الحركات الغريبة، أحيانا كنت أقف أمام المرآة وأتصور وجهي وقد جثمت النظارة على أنفي، وأحيانا أمشي في البيت متمايلا وأتخيل أترابي يتهكّمون بي، حتى طلع اليوم المنتظر وتسلّمت طلبتي. ترددت في لبس النظارة، وطال ترددي، كنت أضعها في علبة سمراء، وأذهب بها إلى المدرسة، وألبسها حين يغيب الأستاذ، خصصت يوم الخميس للنظارة، لأني كنت أزور بيت خالتي، وألتقي مع أبنائها، كان أكثرهم من ذوي النظارة فكأنني بين أهلي، هكذا مضت السنون.

كنت مولعا بالتلفاز أجلس ساعات أمامه، كانت العمات يعذلنني ويبذلن النصح قائلات "ستصبح مكفوف البصر إن لم تأخذ الحذر، وجاءت مرحلة فقدت فيها ملكة التمييز، كنت أعرف المحاضرين بأصواتهم لا بوجوههم، عطف علي أحد من أصدقائي الخلّص، وجرّني إلى طبيب حاذق، فنبهني على خطورة الأمر واستفحال الشر، كنت أرى من العيب أن تحول بيني وبين المناظر الطبيعية هذه النظارة.

كان توجهي إلى لكناؤ، وبينونتي عن مسقط رأسي أثمر كثيرا؛ أفكار تغيرت، وآفاق رحبت، عادات دخلت، فوائد جنيت، ومضارّ حصدت، ومفروضات تساقطت.

تبدل نمط عيشتي ونظرتي إلى الحياة، بدأت أتظرف في كل شيء، ولبست النظارة بعدما تجافتها عيني عقدا بكامله.

تلوّنت في اختيار النظارات وشريت أجودها وأغلاها، ورأيت من خلالها مشاهد ووجوها، ولكن النظارات مهما غلا ثمنها وراق مظهرها لا تشحذ بصيرتك ما دامت نفسك راصفة في قيود سفاسف الأمور، وعينك متلوثة بالمشاهدات السطحية، وعقلك متخبطا في المجاهيل، وضميرك مثقلا بكواهل الذنوب والمعاصي. فكل من العقل والقلب والعين يحتاج إلى بصيرة تهتك أستار المادية وتتجاوز حواجزها السميكة، ولا يتأتّى ذلك بعد الترفع عن الدنايا والإقبال على المعالي وترويض النفس وتوسعة مداركها وفكّها من الأغلال. وهذا أمر نتغافل عنه كثيرا لأن محيطنا الاجتماعي لم يعد يساعدنا على ذلك، فأصبح الحال كما ورد في الذكر الحكيم: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا﴾ [الأعراف: آية 179].

ولله درّ أبي العتاهية إذ قال:

وكم من كفيف بصير الفؤاد
وكم من فؤاد كفيف البصر

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.