لم تكن العلاقة بيني وبين الشيخ يوسف القرضاوي علاقة موظف بصاحب العمل، بل أشبه ما تكون بعلاقة ابن بأبيه. كنت أتشرف بمرافقة الشيخ في دعوات الأفراح وواجبات التعازي، وفي مواعيده عند الأطباء وإلى المستشفى، وفي الحل وكثير من الأسفار، وأكون في خدمته ومعاونته. وقد كان الشيخ يعامل من حوله معاملة الابن أو الأخ أو الصديق والصاحب، معاملة تغلفها المشاعر والاحترام والتواضع.
والشيخ وإن كان في أمر الكتب والمراجعة متعبا لنفسه، يطلب الأحسن، ويحقق ويدقق ويراجع أكثر من مرة، فإنه في أمر نفسه إنسان مريح لمن حوله، قليل الطلبات، هادئ، نادرا ما يغضب أو ينفعل، على عظم مكانته وكبر سنه، وكبر السن يضيق الخلق عند بعض الناس.
إنه كما وصف نفسه في مذكراته (ابن القرية والكُتَّاب)، ابن القرية المصرية الذي أخذ من فضائلها أجمل ما فيها، ثم هذَّبه ما تعلَّمه في الكُتَّاب من كتاب الله ورقَّاه عما لا يستحسن، الأصيل المعدن، الطيب النفس، الراضي بما قسم الله، الصابر على بلاء الله، الشاكر لفضل الله، القنوع بما رزق الله، المحب لخلق الله جميعا، الساتر لما يصل إليه من عيوبهم، الناشر والمشيد بما يعرف من فضائلهم، الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها والأشخاص في مواقعهم، الإنسان المتواضع، الهين اللين، السهل الميسور كمهنجه وكلامه وكتبه. ومهما عدَّدت من أوصافه فهذا هو الواقع، بعيدا عن مبالغة المحبين.
وسأذكر شيئا يسيرا عن بعض مواقف شيخنا وحبيبنا العلامة القرضاوي، مما رأيته وحضرته وعايشته عن قرب، وفاء ببعض حقه، وحقه علينا كبير.
الشيخ القرضاوي وإن كان في أمر الكتب والمراجعة متعبا لنفسه، يطلب الأحسن، ويحقق ويدقق ويراجع أكثر من مرة، فإنه في أمر نفسه إنسان مريح لمن حوله، قليل الطلبات، هادئ، نادرا ما يغضب أو ينفعل
وإذا كان سيدنا عمر رضي الله عنه سأل رجلا ادعى أنه يعرف آخر قائلا: هل أنت جاره الذي يعرف مدخله ومخرجه؟ هل صاحبته في السفر الذي تعرف به مكارم الأخلاق؟ هل عاملته بالدينار والدرهم الذي يعرف به ورع الرجل؟ فإنا ولله الحمد صاحبنا الشيخ، وكنا نعرف مدخله ومخرجه، وقد كان يقضي من الوقت معنا في المكتب أكثر مما يقضيه مع أهله وأولاده، وصحبناه في السفر، وعاملناه بالريال، فما وجدت في ذلك إلا كل خير، أحسبه كذلك والله حسيبه، ولا أزكيه على الله.
في أول أسفاري مع الشيخ كنت مرافقًا له في زيارة للمملكة العربية السعودية لحضور "ندوة البركة"، كنا في رمضان، وكان نوع تأشيرتي: مرافق للشيخ القرضاوي. وهذا معناه أن أصحب الشيخ في ذهابه ومجيئه، ولا أستطيع الدخول من المطار إلا بمرافقته. وفي رحلة العودة من السعودية إلى قطر على الخطوط السعودية، حدث عطل للطائرة الأصلية فغيروها إلى طائرة أخرى أصغر منها، وأُجِّل سفر بعض الركاب إلى اليوم التالي. ولم نكن نعلم كل ذلك إلا عند وصولنا إلى مكتب الاستقبال، فاستخرجوا "البورد" للشيخ، ثم قالوا لي: طائرتك غدًا! قلت لهم: أنا مرافق الشيخ، وهذا ما هو مكتوب في التأشيرة.
قالوا: إما أن يسافر الشيخ وحده أو ينتظر معك! وكانت الطائرة في انتظار صعود الشيخ، واستمر الأخذ والرد إلى قرابة عشرين دقيقة! ولم يرد الشيخ أن يتركني في المطار وحدي، فقال الشيخ: ننتظر في المطار. وبدل أن كنت مرافق الشيخ، أبى الشيخ إلا أن يرافقني. وانتظرنا من العاشرة صباحًا حتى الخامسة عصرًا، ثم ركبنا طائرة الخطوط القطرية، ووصلنا إلى الدوحة بحمد الله. وفي صباح اليوم التالي قال الشيخ ممازحا: أمر غريب، الطفل الصغير ممكن يسافر من دون أمه!
لما عدت للعمل بعد أيام عزاء والدي، قال لي الشيخ: "أريد صورة لوالدك حتى أراه، كنت أود رؤيته في الدنيا، لكن القدر حال دون ذلك، فأسال الله أن يجمعنا في مستقر رحمته"
ومرة كنا في أحد الأسفار، جلست مع الشيخ، والشيخ جلسته ممتعة محببة، يفتح لك المواضيع، ويحكي الذكريات، يخلطها بالأشعار والحكم وقصص الأدب والتاريخ، ويجاذبك أطراف الحديث في أريحية وصفاء، فسألني الشيخ عن نشأتي وتعليمي وما شابه، فحكيت للشيخ. فقال لي: "كنتُ أظن أني أكثر واحد فلاحا، لكنك أكثر فِلْحًا مني".
حين نكون في السفر، فإننا نستعد في غرفنا مبكرا بعض الشيء، ثم نذهب للشيخ للسؤال عنه، ومساعدته في أي شيء، إن كان يحتاج إلى مساعدة، وكنت مع الشيخ في السعودية لأداء مناسك العمرة، فذهبت إلى حجرته في الفندق، وطرقت الباب، فطلبت مني زوجته أن انتظر قليلًا لتهيئة المكان، فكأن الشيخ لم يحب أن أنتظر على الباب، وسمعت الشيخ يقول بصوت عال: إسماعيل يدخل علي في أي مكان وفي أي وقت.
وذهبت مع الشيخ مرة إلى محل أقمشة يتعامل معه من قديم، لشراء أقمشة لتفصيلها وخياطتها، وانتقى الشيخ الأقمشة والألوان والخامات، وأُخِذَت المقاسات. وإذا بالشيخ يقول لي: اختر لنفسك قطعة قماش، ولزوجك مثلها. فتحرجت، واخترت قطعة دون ما اختار الشيخ جودة وسعرًا، فأبى الشيخ إلا أن اختار واحدة من نفس نوع القماش الذي اختاره لنفسه، وقال لي: خذ من هذا فهو نوع جيد. وكانت تصادف بعض الأيام أن ألبس أنا والشيخ الجلابية نفسها في الوقت نفسه.
هكذا كان يكرم الشيخ من حوله، ويشيد بما يعرفه منهم، ويرفع من أقدارهم حين يعرفهم، ويراعي أحوالهم، ويخفض جناحه لهم.
مرة دخلت عليه إحدى أقاربه المكتب، فإذا به يعرفني لها بأغرب تعريف، لم أتوقعه ولم يخطر لي على بال. قال لها: (إسماعيل زميلي في المكتب)! وكلما تأملت في العبارة، لا أستطيع إيفاء حقها من التلطف والرقي والعناية والإكرام.
وقد كان الشيخ يهتم لأمرنا، ويسأل عن أحوالنا وأخبارنا، وبعد أن أتيت للدوحة بفترة، مثَّل لي امتحان القيادة للحصول على رخصة السواقة عقبة كؤودًا، وتأخرت جدا في أخذ الرخصة، وتكررت مرات الرسوب، حتى إن الشيخ كان يقول لسائقه الخاص: خذ إسماعيل ودربه حتى يثق بنفسه وبسواقته عند الاختبار. وفي آخر اختبار لي، أخبرت الشيخ أن عندي اختبار سواقة غدًا، وبعد صلاة العصر يوم الامتحان في المكتب مع الإخوة، دعا الشيخ لي بالنجاح والتوفيق في الامتحان. وفي المساء وجدت الشيخ يتَّصل بي ليطمئن أوفِّقت في الامتحان أم لم أوفق فيه! فأخبرته بنجاحي، والحمد لله. ولعل النجاح حصل ببركة دعاء الشيخ، وكان الشرطي الذي اختبرني -وكان يمنيًّا- سألني: أين تعمل؟ فقلت له: في مكتب الشيخ القرضاوي. فقال: الله الله الله! بلِّغ الشيخ سلامي. ودعا له بخير.
مرة دخلت عليه قريبة له مكتبه، فإذا به يعرفني لها بأغرب تعريف، لم أتوقعه ولم يخطر لي على بال. قال لها: "إسماعيل زميلي في المكتب"!
كنا نحب الشيخ ويحبنا، ويكرمنا ويكرم أهلنا وأولادنا، ومن ذلك أن ابني محمد كان يحفظ القرآن، وقد كنت أصطحبه معي في بعض الأيام، أو بعض المشاوير مع الشيخ، أو في صلاة التراويح، فإذا رآه الشيخ سلم عليه وقبَّله وربت على كتفيه -وذلك دأب الشيخ مع الأطفال-، وسأله عما يحفظ من القرآن، وحين أتم حفظ جزء عم، أخبرت الشيخ، وكان محمد قد صحبني إلى المكتب، فسمَّع له الشيخ بعض آيات من جزء عم، وحكى له قصته مع حفظ القرآن، وأول جائزة أخذها لما أتم حفظ القرآن، وكانت جنيهًا وربع جنيه، ثم أعطاه هدية، وقال: عندما يفرغ من جزء تبارك أعلمني. وظل الشيخ كلما حفظ محمد جزءا طلب منه أن يتلو بعض آياته، وكافأه بمكافأة مالية، حتى كانت آخر مرة، قبل وفاته بأشهر، رحمه الله.
ومرة طلب مني محفظ القرآن الذي يحفّظ محمدا أن يزور الشيخ، ولعلمي بانشغال الشيخ وكثرة مسؤولياته، أردت أن أعتذر له، لكنه أصر، فتوكلت على الله، وأخبرت الشيخ: يوجد أخ يريد أن يسلم عليك. فقال: مَن هو؟ فقلت: محفظ محمد القرآن. فقال: يتفضل عشان خاطر محمد.
وبعد ولادة ابنتي سارة أدخلتها إلى الحضانة، فكان الشيخ يتصل بي كل مساء ليسأل عنها، إلى أن خرجت بعد ثلاثة أو أربعة أيام.
وقد قدر الله أن تتوفى والدتي رحمها الله وفاة مفاجئة وأنا بعيد عنها في الدوحة، ولما علم الشيخ صلى عليها صلاة الغائب، وطلب من مدير المكتب أن يسألني إن كنت سأعقد مجلس عزاء، أن يقوم هو باللازم، لكن كان وقت جائحة كورونا فاكتفيت بأخذ العزاء في البيت، وجاء ابن الشيخ لبيتي لعزائي. ولولا أن بيتي في الدور الثالث من دون مصعد لحضر الشيخ بنفسه.
وعند وفاة أبي بعد وفاة أمي بعام، رحمهما الله جميعا ورحم الشيخ، صلى عليه صلاة الغائب، وكان المرض قد بدأ يأخذ من الشيخ مأخذه، ولما عدت للعمل بعد أيام العزاء وجدت الشيخ يقول لي: أريد صورة لوالدك حتى أراه، كنت أود رؤيته في الدنيا، لكن القدر حال دون ذلك، فأسال الله أن يجمعنا في مستقر رحمته. فطبعت للشيخ صورته، وظل يدعو له ويسأل الله له الرحمة والدرجات العلا، اللهم آمين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.