شعار قسم مدونات

التنوع الثقافي والهوية

Omran Abdullah - بردية مصرية قديمة عليها نقوش فرعونية، ماكس بيكسل - فرعونية أم عربية؟.. جدل الهوية المصري يتجدد ويخلط العلم بالسياسة
التنوع والتعدد في الهويات والثقافات والقيم يمكن أن يكون مصدر غنى وثراء للجنس البشري على العموم (الجزيرة)

بعد التغييرات الجوهرية التي طرأت على الحياة المعاصرة، وحلول عصر العولمة الذي نعيش تفاصيله وتطوراته يومًا بعد يوم، أصبحنا كلنا أفرادا نتقاسم هذا العالم كمجتمع واحد يواجه المخاطر ذاتها ويتشارك مختلف السمات على الرغم من جميع الاختلافات في الهويات والثقافات والتجارب، ومع تزايد الاهتمام في الأيام الأخيرة بموضوع الهوية لوطن أو مجتمع ما ومع تكثيف النقاشات والأطروحات المهتمة بالموضوع بجوانبه المختلفة، فإنه ما زال مفهومًا فضفاضًا صَعُبَ تحديده، ولكن تم تقسيمه إلى مفاهيم فرعية كالهوية الشخصية أو الفردية، والهوية الاجتماعية والثقافية، والهوية الجماعية، واختص اهتمام الهوية الجماعية بهوية القوميات والأقليات الثقافية، الدينية أو الإثنية، وذلك حسب تعريف معجم العلوم الإنسانية لجان فرنسوا دورتيه، فباعتبار أن الهوية ما هي إلا مجموعة الأوصاف والسمات الخاصة بالموصوف، أو في رؤية أخرى تصبح مجموعة الصور والسمات العامة التي يطلقها الآخر، وقد عرفتها الكاتبة منى الدسوقي على أنها ببساطة "من نحن؟ على المستوى الجماعي، ومن أنا؟ على المستوى الفردي"، ولغويًّا ورد تعريف الهوية في المعجم الوسيط على أن الهُوية هي إحساس الفرد بنفسه وفرديته وحفاظه على تكامله وقيمته وسلوكياته وأفكاره في مختلف المواقف. وانطلاقا من التعريفات السابقة، يمكننا أن نعبر عن الهوية الثقافية للجماعة بكونها الخصائص والسمات التي تميزها عن بقية الجماعات، وقد أصبحت وسيلة التعبير عن روح الانتماء ومشاعر الولاء لدى أبنائها.

ولوحظ أنه غالبًا ما يطرح سؤال الهوية في المجتمعات التي تتسم عناصرها بالتنوع والاختلاف، أكثر من المجتمعات التي ينتمي أفرادها إلى هوية واحدة، ويكون ذلك في الأغلب حالة للمجتمعات القروية المحدودة السمات والعناصر، البعيدة عن مجتمع المدينة الكبيرة التي تضم أشكالًا وفئات مختلفة ومتنوعة، فالمدينة تشكل مجموعة من النظم الاجتماعية والثقافية المتغيرة وفي حالة حراك دائم. وقد تعددت تعاريف العلماء والمؤرخين بتعدد الأمكنة وتغير الأزمنة، فرأى أرسطو أن المدينة هي مجموعة من الذكريات الصخرية الممكن إدراك معانيها ومكوناتها، أما ابن خلدون فيرى أن "المدن والأمصار ذات هياكل وأجرام عظيمة وبناء كبير… وهي موضوعة للعموم لا للخصوص فتحتاج إلى اجتماع الأيادي وكثرة التعاون"، ومن ثم فإنَّ التصور المطلق للمدينة بشكلها الحديث من المنظور المجتمعي ما هو إلا هويات ثقافية مختلفة تتعايش في بيئة واحدة وتتفاعل مع بعضها تفاعلا مستمرًّا، ومجموعة القيم والثقافات المختلفة للأفراد تتجانس لتكوّن فسيفساء ينتج عنها الشكل النهائي المتناغم للمجتمعات.

يكتسب أفراد المجتمع ثقافة مجتمعهم من تفاعلهم مع بعضهم، ويحرص كل مجتمع متمثلًا في أفراده على الحفاظ على الإرث الثقافي والحضاري الذي يشكل الهوية الثقافية الخاصة بهم ويميزهم عن المجتمعات الأخرى، وتلك الرغبة في الحفاظ على ذلك الموروث تنبع من مشاعر الفخر والاعتزاز والانتماء لتلك الهوية، وتتشكل تلك الهوية على المستوى الظاهر من مجموعة عوامل منها اللغة، والدين، والموروثات الثقافية المادية، وعلى المستوى الأعمق نجد أن الهوية لا تتشكل إلا من مجموعة القيم الفكرية والأعراف وطرائق التفكير والسلوكات المجتمعية.

وإن النتاجات الثقافية لمكان ما مهما اختلفت تنسجم مع قواعد بناء مشتركة تمثّل بنى عقلية متحدة، "فالثقافات الإنسانية هي بمنزلة تنوع على موضوع واحد، فكلها متساوية ولها القيمة الثقافية عينها"، وبهذا يصبح مفهوم المشاركة في ظل التنوع الثقافي الذي يحدث في المدينة مدخلًا رئيسًا يؤثر بصور مباشرة وغير مباشرة على الهوية المحلية أو الثقافية العامة للمجتمع، وذلك التأثير يمكن أن يحدث التوازن والجودة المطلوبة لتقدم المجتمع ورفعة شأنه وسط بقية المجتمعات، ويحدث ذلك بشرط وجود الانسجام بين الفئات المتنوعة في ثقافتها وهويتها، وقد ذكر الباحث عبد الهادي أعراب في مقال على لسان المنظّر الاجتماعي والجغرافي دافيد هارفي "إن الحق في المدينة… لا يستقيم من دون الانتفاع الكامل والتام من المدينة واحترام التنوع الثقافي من غير إقصاء، وحماية التاريخ والهوية والثقافة هي إطار عمل مشترك للمواطنين في تحديد تنمية البيئة الحضارية وتطويرها"، ويتطلب مفهوم التعايش السلمي في المجتمعات المتنوعة عنصرين مهمين هما القبول والاحترام، ويعني ذلك فهم أن كل شخص فريد، وأنه يجب الاعتراف بهذه الاختلافات الفردية، أيًّا كان شكل هذه الاختلافات ذات الصلة بالأبعاد المختلفة مثل العرق والعمر والوضع والحالة الاجتماعية والاقتصادية والقدرات البدنية والمعتقدات الدينية وما إلى ذلك، ومن ثمّ هناك حاجة إلى استكشاف هذه الاختلافات في بيئة آمنة وإيجابية".

بناء على كل ما سبق، فإن النظرة إلى موضوع الهوية الثقافية لا بد لها بطبيعة الحال من أن تتغير تغيرًا جوهريًّا عن الطريقة التي كان ينظر بها إليه في السابق، وأصبح على الأفراد أن يتقنوا مهارات تقبل الآخر والانفتاح على الثقافات المختلفة، وبعد تخطي الحواجز الخاصة بالتضاريس الجغرافية، فإنه أصبح لا بد من تخطي الحواجز النفسية التي تنتج عن رؤية كل جماعة معينة للعالم، وقد عرف علماء الأنثروبولوجيا الإنسان على أنه كائن ثقافي، وذلك يدل على أن الهوية الثقافية لها الدور الأكبر في تشكيل فكر الإنسان ورؤاه وطموحاته، وبالتأكيد تؤثر في تفاعلاته داخل منظومته الاجتماعية والثقافية والمنظومات الأخرى.

ويمكن أن نعدّ التنوع والتعدد في الهويات والثقافات والقيم غنى وثراء للجنس البشري على العموم، ودافعًا إلى الإبداع والإنتاج الحثيث في مختلف المجالات، وذلك لا يمنع من أن تشكل الهوية الثقافية خطرًا على المجتمع، يحدث عند حصر الهوية الثقافية في نطاق ضيق ومنغلق على ذاته يمنع الفرد من أن يقدّر ويحترم الفرد المختلف عنه.

لذلك لا بد أن يكون هنالك اعتراف من أفراد المجموعات المختلفة بثقافات وهويات الجماعات الأخرى ولا بد من الاحترام المتبادل في المجال العام والخاص، ذلك على الرغم من أن التوفيق بين الثقافات المختلفة قد يكون صعبًا في أحيان كثيرة، وهنا يأتي دور المنظمات التربوية والتعليمية في تعزيز سبل التوفيق الملائمة للأفراد على اختلافاتهم وتنوع خلفياتهم الثقافية والإثنية والبيئية، لأن ذلك الاعتراف قد يصبح ضرورة إنسانية في مجتمع يختلط فيه الناس من ثقافات مختلفة في المساحات الخاصة والعامة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.