شعار قسم مدونات

حريق مرفأ بيروت.. أي الرويات أقرب للصواب؟

Aftermath of Tuesday's blast in Beirut's port area

على مدى عقود شهدت مصر عشرات حوادث القطارات راح ضحيتها آلاف المواطنين البسطاء بين قتيل وجريح ومعاق، وكانت الحكومة في الغالب ترجع الحادث إلى "الجزرة" أو جزرة الهواء والموجودة بجهاز التحكم الآلي في القطار والمسؤولة عن إيقاف القطار أوتوماتيكيا في حال تخطي "سيمافور" إشارة المحطات على طريق رحلته، ليحاسب موظف صغير وتغلق القضية.

 

أول تناول إعلامي للحادثة كان متزنا ومتربصا، وبعد ما يقارب الساعة وتحديدا بعد إعلان حزب الله اللبناني عدم استهداف مخازن السلاح التابعة له، ليقطع الشك باليقين بعد أن بدأ البعض يتداول فكرة استهداف جيش الاحتلال لمخازن سلاحه، بدأت الرواية تتحول وبدأت دفة الحديث تتجه نحو الإهمال، حتى قبل بدأ التحقيقات.

 

ما يقارب الـــ 2750 طناً من مادة نيترات الأمونيوم والموجودة في أحد عنابر مرفأ بيروت منذ 6 سنوات، تسببت في الانفجار الكبير الذي أودى بحياة العشرات وخلف آلاف الجرحى ودمارا هائلا في المباني والممتلكات في بيروت، بحسب آخر إحصائية أثناء كتابة المقال، وبدأت الرواية تعتمد وتتنقل وسائل الإعلام، على الرغم من شهادات شهود عيان أكدت اندلاع الحريق .. في رواية بسبب جسم مشتعل، وفي وراية أخرى أنه حريق متعمد بدأ صغيرا وكبر بفعل فاعل، بالقطع هذه الروايات اختفت منذ مساء أمس، لكنها روايات سمعها البعض مع بدايات الحريق وقبل تبني الرواية المعتمدة، ولأن الخبر يحتاج مصدر، ولأن المصدر يجب أن يكون ثقة، فقد اعتمدت وسائل الإعلام رواية حزب الله والتابعين له من المسيطرين على المشهد السياسي والإداري في لبنان، فحتى رواية الإهمال تدينهم لأن الجميع يعرف أنهم وموالوهم يسيطرون على المرفأ.

Turkey helps Lebanon amid deadly explosion

وأنا هنا لا اتهم أحدا ولكني أضع الأمور في نصابها، فالمسؤولية تقع على المسؤول، والقاعدة القانونية تفرض مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعه، لكن علينا أن نقف كثيرا أمام ديناميكية تصدير الرواية، وقوة ونفاذ هذا الحزب بإطلاق رجالاته من مسئولين ومحللين وأكاديميين لتثبيت الرواية في العقل الجمعي العربي على الأقل، والغربي غير المهتم، ولقد وجد الاحتلال هذه الرواية فرصة لتبرئة نفسه من تنفيذ العملية، إن كان هو من نفذها، ولعل الشكوك تظل مفتوحة أمام الاحتمالية، فالملابسات والظروف المحيطة، وتاريخ المتهم "الاحتلال الصهيوني" تسمح بأن يكون موضع اتهام، فالعلاقات المتوترة بين حزب الله والكيان الصهيوني خلال الأيام السابقة، والحرائق التي نفذت بشكل أقرب لما نفذ به مرفأ بيروت، تجعل الكيان المحتل ليس بعيدا عن دوائر الشبهة والاتهام، والمفاجأة التي لن تجد لها ذكرا، أن رئيس وزراء الكيان الصهيوني نتنياهو في آخر جمعية عامة للأمم المتحدة ذهب بخريطة موضحا عليها أماكن تخزين سلاح وذخيرة حزب الله.

 

لكن تبقى الرواية المروجة ضعيفة، رواية الإهمال المتسبب في حريق المرفأ، فكميات كبيرة من مادة كيماوية شديدة الاحتراق تستخدم في صنع القنابل، لا يقبل عقلا أن تخزن لمدة ست سنوات في مكان مفتوح كهذا، من دون نقل ولا تأمين، كما أن المدة الواردة في الرواية تجعلنا نتوقف كثيرا، فنيترات الأمونيوم يجب أن تخزن في أماكن جافة، ودعوني أنقل لكم معلومات علمية، لن أثقل عليكم بها، لكنها مهمة في تفنيد الرواية التي علينا أن نصدقها.

 

بحسب موقع كامو كيميكلز "CAMEO Chemicals"  فإن مادة نيترات الأمونيوم تحتوي على رطوبة نسبية حرجة تبلغ 59.4٪ ، فوقها تمتص الرطوبة من الغلاف الجوي. لذلك، من المهم تخزين نترات الأمونيوم في حاوية محكمة الإغلاق، ومن ثم تفسد، ومن ثم فإن المادة تتأثر بسوء التخزين وطول مدتها، ولا يعقل أن تبقى المادة محافظة على فاعليتها ست سنوات لتحدث هذا الأثر الكبير، فبحسب موقع رومل العلمي "ROMIL" فإنه في حالة سلامة التخزين فإن المادة تظل صالحة لمدة خمس سنوات أما مع سوء التخزين فإن عمر المادة لا يتعدى السنة.

Aftermath of Tuesday's blast in Beirut's port area

وعندما نتحدث عن تهديد الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله للاحتلال بنسف مخزون الاحتلال من نفس المادة منذ ثلاث سنوات تقريبا، فإن احتمال رد جيش الاحتلال قائم، ومع استدعاء المعلومات العلمية الواردة أنفا، فإن مخزون نترات الأمونيوم قد يكون مستوردة أو حتى مصنع محليا ومعد لإعادة التصدير، ومع وضع معلومة أن إيران ، الراعي الرسمي لحزب الله وباقي الميليشيات الموالية لها في المنطقة، اتبعت سياسة توزيع تخزين وتصنيع السلاح، فإنه من المحتمل أيضا أن تكون المواد التي تم "إحراقها" كانت معدة للتصدير إلى سوريا أو العراق أو حتى اليمن.

 

لذا فإن رواية الإهمال والحريق والمادة المصادرة منذ ست سنوات يمكن أن يطاح بها، لو توقفنا قليلا عند حقائق واحتمالات يمكن أن تأخذنا إلى نتائج غير تلك المعلبة التي يدسها الإعلام، مستخدما لتمريرها ثقله خدمة لمواقف سياسية تصب في مصلحة طرف بعينه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.