شعار قسم مدونات

رواية "نوميديا".. أوداد بين إرادة الموت ولعنة الحياة

blogs نوميديا

تعد رواية "نوميديا" لكاتبها المغربي طارق بكاري، من الروايات التي لاقت استحسانا كبيرا لدى فئة عريضة من القراء والنقاد والمتتبعين للشأن الروائي سواء داخل المغرب أو خارجه، فهي رواية تقدم نفسها بقوة أمام روايات خَبِرَ أصحابها الكتابة والسرد، لا لكونها صنفت ضمن اللائحة القصيرة لجائزة البوكر "BOOKE"، بل لجمالية حبكتها ومتانة أسلوبها وطريقة سردها. يتداخل في ثنايا هذه الرواية التي تقع في حدود 422 صفحة، السردي الواقعي بالمتخيل الأسطوري، والمنطقي بالخيالي العجائبي الذي حفرته الذاكرة وابتدعه النسق الثقافي، ليجعل منه ذاكرة تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل.

فالرواية تعالج واقعا معتلاًّ بالكثير من الأمراض والأفكار التي استحالت بعد تقادم الأزمنة قاعدة تؤسس لعلاقاتنا؛ بين المباح والحرام، والممكن وغير الممكن، والمنطقي واللامنطقي، وَفْق ثنائية المركز والهامش والحضور والغياب عند جاك دريدا، فهي بوح لما نعيشه اليوم، بوح على لسان بطل الرواية "مراد" أو "أوداد" أو "الوعل" كما اشتهى أهل قرية "إغرم"، التي نشأ فيها، أن يطلقوا عليه، هي أسماء لاسم واحد باختلاف المسميات، مراد ذلك الطفل الصغير الذي عاش الأمرين في طفولته، الطفل اللقيط الذي ولد يتيما يجهل والديه بعدما لفظته سادية الحياة نحو المجهول، ليجد نفسه مع أسرة أمحند الذي انتشله من واقعه البئيس، ليواجه واقعا أشد بؤسا منه بعد سوء معاملة أم أمحند له مقارنة بأبنائها.

كان لموت خولة، وقبل ذلك موت صديقه مصطفى نتيجة عمل إرهابي، وقع كبير في نفس مراد الذي حمَّل نفسه طوال حياته مسؤولية موت صديقه الذي كاد أن يكون ضحية معه لولا موعده مع خولة، وموت حبيبته التي هجرها عن غير قصد

استمر التضييق على أوداد الذي ذاق ضرعا من المضايقات التي كان يعيشها كل يوم رغم فطنته وحدة ذكائه، فكَّر معها أكثر من مرة أن يضع حدا لحياته، غير أن الموت رفضه بعدما أحبته الحياة، فقط، لتمارس ساديتها مُستلِذَّةً بتعذيب طفل صغير حمل معه أعباء أثقلت جسده الصغير بالآلام والإقصاء، جعل منه لعنة تتواردها ألسن قبيلة إغرم، وهو ما تأكد بعد احتراق أم أمحند في منزلها كعقاب لها على ما فعلته بأوداد، كما ظن أهل القرية، ليصير بعدها لعنة تهدد إغرم كما هددتها، من قبل، لعنة السفاح الذي كان يُردِي كل يوم قتيلا ببندقيته من داخل قلعته أعلى الجبل، قبل أن يضع "سيدي موسى" حدا له بالتضحية بأحد أبنائه شريطة توقفه عن قتل أبناء قبيلته، ما يعكس حضور نسق ثقافي مضمر يتجلى في استحضار الموروث السردي القديم، بتضمينه لحكاية الملك شهريار الذي يقتل فتاة كل ليلة، قبل أن تضع شهرزاد حدا له من خلال السرد والحكايات، فالسفاح كان يمثل الملك شهريار بينما سيدي عيسى يمثل شهرزاد، واستحضار قصة ذبيح الله إسماعيل كرمز للتضحية،كما ضحى سيدي موسى بابنه من أجل قبيلته، ما يعكس تداخل الديني بالموروث الشعبي الذي يزخر بالأساطير والخرافات.

اضطر أوداد (الوعل) مغادرة القرية بعد رفضها له من قبل أهلها الذين صدقوا الخرافة وأقصوا العقل والمنطق، متجها صوب المدينة التي لا يعرف عنها شيئا برفقة "الحسين" الذي غير اسمه من "أوداد" إلى "مراد"، ظنَّ معها الطفل أن قساوة الحياة عليه ستقف عند حدود قريته إغرم، لكن سرعان ما تكالبت عليه الظروف بعدما ازداد حقد "صفية" زوجة الحسين عليه، إذ أتمَّتْ ما بدأته العجوز أم محند، والتي رسمت على جسده لوحة من الندوب والجراح استعصت على الزوال حتى بعد كبره، حقد صفية هذا ناتج عن كونها أما للبنات دون الذكور، ظنا منها أن زوجها جاء بمراد ليسد عجزها عن إنجاب الذكور، وخوفا على بناتها من مراد الذي صار فحلا مع مرور الأيام.

استطاع مراد أن يتفوق على أقرانه في المرحلتين الإعدادية والثانوية وهو ما جعله ينتزع احترام الجميع له؛ خصوصا أساتذته، الذين نظروا له نظرة احترام لا شفقة. بعدها اختار لنفسه توجها يساريا في الجامعة، معه تعرف على الكثير من الأصدقاء؛ أبرزهم "مصطفى" و"نضال"، ليصير بعد ذلك أستاذا جامعيا. هناك التقى بطالبته "خولة" التي ربطته معها علاقة حب، سرعان ما انتهت بانتحارها بعد انقطاع أخبار مراد الذي غادر لفرنسا لمدة سنتين من أجل التكوين، ليعود منكسرا بعد سماعه بالخبر، والتي ودعت الحياة خوفا من نظرة المجتمع ورفضه لها بعدما علمت بحملها بطفل من صلب مراد، فاقدة الأمل في عودته.

كان لموت خولة، وقبل ذلك موت صديقه مصطفى نتيجة عمل إرهابي، وقع كبير في نفس مراد الذي حمَّل نفسه طوال حياته مسؤولية موت صديقه الذي كاد أن يكون ضحية معه لولا موعده مع خولة، وموت حبيبته التي هجرها عن غير قصد، والذي انعكس عليه لتنقلب حياته رأسا على عقب، جعل منه مريضا نفسيا حتمت عليه الظروف زيارة طبيب نفسي. تعرف مراد على الطبيب "بن هاشم" الذي نصحه بضرورة العودة إلى قريته إغرم التي ستكون بلسما لجراحه ومرهما لها، الأمر الذي انصاع له مراد باقتنائه لفندق بجوار القرية، والذي استعاد معه ذكريات الطفولة رغم مرارتها، ليعود إلى قريته من جديد، لكن هذه المرة ليس طفلا وليس وعلا، بل مراد الرجل المثقف الذي يجهل هويته كل من في القرية.

سرعان ما اعتاد مراد على الهدوء والسكينة في إغرم، غير أن مرضه العضال ظل ملازما له من خلال نزيف أنفه الحاد بين الفينة والأخرى. تعرف أثناء مكوثه في القرية على"جوليا"، الشابة الفرنسية الجميلة التي كان يجد فيها الصديقة التي تخفف من أحزانه عبر حكيه لها عما عاشه أوداد الوعل في إغرم، دون كشفه لها عن حقيقة أنه وأوداد شخص واحد؛ بالرغم من علمها بذلك، وهي التي اطلعت على ملفه الطبي كاملا بأدق تفاصيله بعدما نجحت في اقتنائه بهدف كتابة روايتها التي سيكون مراد بطلها، بعد إقناع طبيبه بن هاشم الذي استسلم لجشعه ولم يحافظ على خصوصية مريضه، وهو ما لم يكتشفه مراد إلا بعد فوات الأوان.

مراد الذي عانى الويلات في حياته لم يكن باستطاعته مواجهتها إلا من خلال الاستسلام في كثير من الأحيان للموت الذي لم يكن يخشاه بحكم أنه سيكون رحيما به أكثر من الحياة، أو عبر ممارسة الجنس سواء مع خائنته وقاتلته الفرنسية جوليا التي خانت زوجها وخانته بالكذب عليه؛ أو صديقته اليسارية نضال التي خانت زوجها ومبادئها، ما يكرس النسق الثقافي المضمر والمعلن، في نفس الوقت، في كون المرأة رمزا للخيانة والخيانة المضاعة، شأنها في ذلك شأن زوجة شهريار. غير أن الجنس كان مجرد لحظة نسيان مؤقت، فهو مرهم ومُسكِّن لحظي لآلامه التي لا تنتهي كلما تذكر حبيبته خولة في تصرفات جوليا، أو قرأ مذكراتها الحزينة التي جمعتهما معا. لكن نهم مراد بالجنس كوسيلة لم ينته عند حدود جوليا ونضال، بل تجاوزه إلى توهماته التي زادت كل يوم بسبب تفاقم المرض وتناول العقاقير والمسكنات التي كانت تقدمها له جوليا ليبوح لها بآلامه وما يعتصر قلبه لإتمام طبقها الروائي، معها صار يتوهم طيف فتاة شديدة الجمال غير أنها خرساء، أطلق عليها اسم "نوميديا" تيمنا بملكة أمازيغية، ظل مهووسا بها لحد ظن معه أهل القرية ومن حوله أنه أصبح مجنونا، بل ومسكونا بجنية الوادي، مؤكدين تمسكهم بثقافة الجن والصرع.

نوميديا، الجنية كما يحب أن يطلق عليها أهل إغرم والتي خففت من آلامه كما اعتقد، كانت سببا في مضاعفتها بعد اختفائها المبهم، ليظل اسمها يتردد بين ثنايا شفتيه في كل لحظة "نـــو … مـيـــ … ديـــا"، ومع تفاقم الألم هام مراد وحيدا في الوادي يردد معه اسمها متخيلا أنها ملاذه الأخير إلى خولة، ظنا منه أنها ستقوده إلى حيث سيجد خولة بعدما فشل في لقائها في حياته. ختاما، استطاعت رواية "نوميديا" أن تعكس الواقع الآخر، ذلك الواقع المريض الذي ندافع عنه جهارا ونلعنه سرا، الواقع الذي نبيح فيه ليلا ما نحرمه نهارا، ذاك الواقع الذي هو نتاج لنسق ثقافي معطوب مبني على الخرافات والأساطير، وما تناقلته الألسن في الثقافة الشعبية، واقع راح ضحيته "مراد" أو "أوداد" اللقيط، الطفل الذي لا ذنب له سوى أنه عاش يتيما لا أصل له، وكأنه لعنة من السماء نزلت لتصيب كل من عرفه، ويموت معها كل الذين أحبهم والذين كرههم، لتستمر "لعنة الحياة" عليه بعدما أبى الموت أن يكون رحيما به ويخلصه من عذابات الحياة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.