شعار قسم مدونات

هل تدار الدولة الأردنية وفق أجندات عبثية؟

blogs الأردن

لطالما وصفت الدولة الأردنية حراك الشارع المنتقد لأدائها، بأنه يدار وفق أجندات "عبثية"، في محاولات لتحطيمه إعلامياً في أعين الناس، ولتبرير اعتقال عشرات الناشطين المعارضين لأداء الدولة وحكوماتها الشكلية. لكن الحراك الأردني، الذي بدأ في العام ٢٠١١ في اعتصام على دوار الداخلية (ميدان جمال عبد الناصر) انتهى باقتحامه من قبل "مجموعة من الزعران"، أصبح أكثر انتشاراً من ذي قبل، وهو آخذ بالصعود، نظراً لاكتشاف الشارع صدقية الكثير مما يطرحه الحراك من جهة، ونظراً لفشل الدولة في إظهار مصداقياتها وشفافيتها على مر السنين، من جهة أخرى. تسلك هذه المقالة المنهج النقدي لطرح تساؤلات حول وقائع على الساحة الأردنية من شأنها تعزيز مفهوم "عبثية إدارة الدولة" في الوقت الذي تواجه فيه الدولة والشعب أخطر مؤامرة منذ تأسيسها: صفقة القرن.

مفهوم العبثية

اشتهر استخدام مصطح "العبثية" من وجهة نظر فلسفية تنص على أن جهود الإنسان في إدراك معنى الكون غالباً ما تنتهي بالفشل، ولذلك تذهب تلك الجهود عبثاً. ويعرف الأدب العبثي بأنه الذي يسخّر لوصف شخصيات ليس لها هدف أصيل في حياتها. ويمكننا البناء على ما سلف لنصل لمفهوم الإدارة العبثية على أنها الإدارة التي لا تستند إلى أهداف فتضيع جهود العاملين فيها عبثاً. وعلني أركز هنا على أن الأهداف في هذا السياق هي الأهداف الاستراتيجية العليا، عندما يتعلق الأمر بإدارة دولة في أطول حدود لها كيان محتل غاصب عنصري شعبوي ومتطرف. وسأستعرض فيما يلي العديد من الأهداف الاستراتيجية التي ترتكز إلى مبادئ غفلت عنها الإدارة العبثية للدولة الأردنية.

المشروعية الدينية للهاشميين
لا يمكن لأي عاقل أردني أن يتقبل أن هناك حالة من المساومة يمكن أن تتم على أي شبر من الأراضي العربية شرق نهر الأردن أو غربه، ولا يمكن لشعب قوامه 9 مليون إنسان أن يكون متنبهاً لخطر معاد محدق به

يستمد الهاشميون مشروعية حكمهم للأردن من كونهم من نسل النبي محمد، صلى الله عليه وسلم. فالجيش الأردني يسمى الجيش العربي المصطفوي، وملك الأردن يسمى عميد آل البيت، وهو الوصي على المقدسات الإسلامية والمسيجية شرق نهر الأردن وغربه. ولعل المشروعية الدينية للهاشميين المترسخة في وجدان الأردنيين جعلتهم يتفقون على أن العائلة الحاكمة خط أحمر منذ تأسيس إمارة شرق الأردن. لكن اللافت في الأمر أن سقوف مطالبات الشارع وانتقاداته بدأت تتجاهل هذه القيمة، ووصلت إلى ذات الملك عبدالله وأهله. ولم يكن هذا ليحصل لولا الإدارة العبثية للدولة الأردنية، التي لم تبني استراتيجيتها على قيمة "المشروعية الدينية للهاشميين".

فالإسلام، الذي يستمد الملك مشروعيته منه، أصبح محط انتقادات وسخرية وتشكيك من قبل العديد من الجماعات التي سمح لها أن تعمل على الأراضي الأردنية. فقد أعلن البهائيون عن تأسيس أنفسهم في الأردن مؤخراً (بشار طافش، مدونات الجزيرة، 19 كانون أول/ديسمبر 2019)، واحتفل التنويريون بعمّان عاصمة للتنوير العربي (الرأي، 19 تشرين ثاني/نوفمبر 2019)، ناهيك عن موجات التشكيك والإلحاد التي تعمل بكثافة على الأراضي الأردنية، وما حادثة "مؤمنون بلا حدود" ببعيدة عنا. كل هذا الهجوم على الإسلام يحصل على الأراضي الأردنية، وبتغاض واضح من قبل الدولة وأجهزتها الأمنية التي قد يشغل همها خشوع المصلين في صلاة الفجر جماعة، أكثر مما يهمها النيل من المشروعية الدينية للهاشميين، على ما يبدو.

وعلني هنا أضرب أمثلة على المشروعية الدينية للنظام الملكي البريطاني، وكيف أن العائلة المالكة لطالما خضعت لمقتضيات تلك المشروعية. فالملك إدوارد عم الملكة إليزابث تنازل عن العرش لأنه تزوج من امرأة مطلقة (أو ربما كانت متزوجة). وقد كان السبب في ذلك دينياً بحتاً لأن الملك هو راعي الكنيسة، ولا يمكن له أن يتزوج من امرأة متزوجة. أما موضوع زواج الأمير هاري من ميغيل ماركل، فقد سلطت عليه الصحافة اليمينية الضوء لأن ميغيل كانت متزوجة قبله. وانتهى الأمر بالملك أدوارد والأمير هاري باعتزال الحياة الملكية. فمتى ستدرك الدولة الأردنية أن المشروعية الدينية غاية في الأهمية لبقاء الهاشميين واستمرار حكمهم، واستقرار أمر البلاد لهم ولذراريهم؟!

في فيلم "خطاب الملك" (انتاج عام 2010، إخراج توم هوبر، وحاز على 4 جوائز أوسكار)، دار حوار بين الملك المعتزل إدوارد وشقيقه الملك جورج حول إدارة الحكم في البلاد. فقال جورج، وقد كان شخصية غير متمرسة بالسياسة، لإدوارد: "نحن عائلة، ويجب أن تتخلى عما تفعل لصالح عائلتنا"، فرد عليه إدوارد: "نحن مؤسسة، ولسنا عائلة". هذا الوصف الدهائي ينطبق على كل العائلات الملكية الراسخة، حيث أنها تعتبر مؤسسات وليست مجرد عائلات. وهذا يعني أن شؤونها الخاصة أمور عامة غاية في الأهمية، وأن ارتباطها بالمشروعية الدينية مقدم على الخيارات الشخصية الليبرالية.

يحدنا من الغرب كيان غاصب

لا يمكن لأي عاقل أردني أن يتقبل أن هناك حالة من المساومة يمكن أن تتم على أي شبر من الأراضي العربية شرق نهر الأردن أو غربه، ولا يمكن لشعب قوامه 9 مليون إنسان أن يكون متنبهاً لخطر معاد محدق به، ومتربص بأرضه ومائه وسمائه طالما أن هذا الشعب لا يملك عقيدة ترفع همته لمجابهة هذا الخطر الوجودي. وهنا، نجد في سماح الدولة الأردنية لكل الحركات المعادية للإسلام، أو المشككة به، إدارة عبثية لمعتقدات الشعب الذي لن يكون قادراً على المطالبة بحقوقه أو الذود من أجل استعادتها. فهل يمكن لمن يروجون المجون والترف أن يكونوا كذلك؟ وهل يمكن لمن يتصفون بالليبرالية العوراء أن يدافعوا عن حكم ملكهم ذي المشروعية الدينية؟

عبثية خصخصة السلع الاستراتيجية

من العبثية المثيرة للدهشة في إدارة الدولة الأردنية، التي يحدها كيان عنصري غاصب، تسليم السلع الاستراتيجية للقطاع الخاص الذي يمكن السيطرة عليه من قبل أعداء الدولة والدين، بسهولة، من خلال الاستحواذ في الأسواق المالية. فخصخصة الفوسفات والبوتاس والكهرباء والماء كلها دلائل كبيرة على عدم امتلاك الدولة الأردنية أي رؤية استراتيجية عند الشروع بعمليات تحرير الاقتصاد، ولا حتى بعد إنجازها. فعمليات الخصخصة، كما ظهر في تقرير تقييمها المعد من قبل الدكتور عمر الرزاز، كانت عبارة عن عمليات فساد فيها استغباء كبير للدولة ومقدراتها. ولعل هذا يقودنا إلى أمر غاية في الأهمية، طفا على السطح مؤخراً، وهو صفقة شراء الغاز المسروق من قبل الكيان المغتصب.

غاز العدو احتلال

في النصف الثاني من الألفية الجديدة، توقع أحد الجنرالات الإسرائليين أن الملك عبدالله بن الحسين هو آخر الملوك الهاشميين في الأردن ما أدى إلى نشوب أزمة دوبلوماسية مع الكيان الصهيوني (القدس العربي، 6آذار/مارس 2006). وحتى يومنا هذا، لا يزال الكيان الصهويني يمارس ضغوطات على الملك عبدالله وفي كل الاتجاهات. فضم أراض من غور الأردن، والتهديد بقطع المياه، وتلويث المياه في أواخر تسعينيات القرن والمنصرم، وقتل العديد من الأردنيين أو سجنهم من قبل الاحتلال، إلى غيرها من الدلائل التي من شأنها الكشف بوضوح عن نوايا هذا العدو الغاشم. أما ما يثير الدهشة والحيرة والحسرة والحزن والغضب، وكل المشاعر السلبية التي يمكن للإنسان أن يشعر بها، فهو إغفال، أو تعمد إغفال الدولة الأردنية لكل ذلك، في اتفاقية شراء الغاز المسروق من الكيان المحتل. ووما يثير السخرية، أن النظام الأردني نئا بنفسه عن هذا الموضوع على اعتبار أن الصفقة أبرمت بين مؤسسات قطاع خاص. في الحقيقة، الكل يعلم أن الدولة الأردنية لو لم ترغب في تلك الاتفاقية لما كانت قد أبرمت، فهل هناك عبثية أكثر من وضع قطاع الكهرباء، شريان الحياة، تحت رحمة كيان لا يريد بالأردن والأردنيين، ولا الملك عبدالله و الهاشميين، ولا الإسلام والمسلمين، ولا المسيحية والمسيحيين، خيراً؟!

مكافحة الفساد ومحاكمة الفاسدين

لم تعد حكايا الفساد التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي "أجندات عبثية" كما كانت ولا تزال الدولة الأردنية تصف من يحاول الحديث عنها. فتقرير تقييم التخاصية وثق الكثير من القرائن والشواهد والأدلة عليها. الغريب أن من يحاول من نشطاء الحرك أن يتحدث عن الفساد، ويكون ذا تأثير في توعية الناس بتفاصيله، يزج به في السجون. وفي ذات الوقت ينعم الفاسدون بحصانات قانونية وبحماية الأجهزة الأمنية. فأي عبثية أكثر من أن تسعى دولة إلى خسران ثقة شعبها بها من خلال الاستمرار بغض النظر عن الفاسدين وحمايتهم؟!

الخلاصة

ناقشت هذه المقالة، وفق المنهج النقدي، عبثية الدولة الأردنية في إدارة ذاتها وشعبها من خلال تبيان عبثيتها في تجاهل مبادئ استراتيجية يحتم عليها الالتزام بها، طالما أنها دائماً محل أطماع ومؤمرات من قبل الكيان المحتل القابع غربها. وتناشد هذه المقالة القائمين على الدولة الأردنية التحلي بالرؤى الاستراتيجية من أجل تجنب ما لا يحمد عقباه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.