شعار قسم مدونات

هل نحن مدركون حقًّا للمعنى الدقيق لتذوّق الموت؟

blogs الموت

ماذا تعني لك الحياة، وهل تستوعب حقا المعنى العميق لتذوق الموت؟ الذي وعدنا به ربنا وخالقنا. أولا وقبل كل شيء؛ الحياة بمعناها المطلق ليست إلا لواحد هو الله أحد الله الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحدٌ؛ الحي الذي لا يموت، الذي حياته من ذاته سبحانه، وحياته حقيقية ومطلقة. أما حياتنا نحن البشر حياة مشوبة بالموت والعدم. الأمثلة كثيرة ومتعددة؛ فعلى المستوى الجسدي، وانطلاقا من الدراسات الفيسيولوجية لجسم الإنسان، نكتشف أن هناك عمليتان أساسيتان دقيقتان يشتغلان في نفس الوقت، هما البناء والهدم. يمثلان الحياة والموت مند الولادة، ففي مراحل الطفولة والشباب، تكون عملية الهدم ضعيفة جدا مقارنة مع عمليات البناء، وعند منتصف العمر يصبحان متوازيان، أما عند الشيخوخة تكون عمليات الهدم أكبر بكثير من البناء.

إذا الموت مولود مع ولادة الإنسان. نعم؛ موجود في اللعاب، كائن وجار في العرق، قائم وحاضر في الدموع. عبارة عن خلايا ميتة، لا حول لها ولا قوة. غير مفقود ولا غائب أو مغيب في الدم؛ ففي كل ساعة تموت ستون مليون خلية، لكن العظام والكبد هما من يقومان بتجديدها. نفس الشيء على المستوى النفسي؛ توجد عوامل حياة متعددة كالإشراق، البهجة، السرور، التفاؤل والإيجابية. ثم في المقابل هناك عوامل عدمية تمثل الموت كالقلق، الندم، الحزن، الحصرة، السلبية، التشاؤم، والاكتئاب.  قال تعالى: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" (آل عمران: 185). إذا هي قضية عامة من الأساس، فإن كانوا أخيار فإن الموت تعجل لهم بلقاء ربهم، وإن كانوا أشرار فإنها تريح الدنيا من شرهم. ولهذا فإن الموت خيرٌ في كلتا الحالتين. لكن كيف يكون ذوق الموت؟ 

الابتلاء يكون في الشر والخير على حد سواء، فما دام هناك اختبار فإنه سوف يشمل كل شيء، الابتلاء في الخير من أجل إقامة الحجة والدليل على أنفسنا

كل نفس لا بد أن تذوق الموت لا محالة مهما عمرت في الدنيا. وما وجودها في الحياة إلا ابتلاء بالتكاليف أمرا ونهيا، وبتقلب الأحوال خيرا وشرا، ثم المآل والمرجع بعد ذلك إلى الله – وحده – للحساب والجزاء. وبهذا يرجع جميع الخلق إلى ربهم؛ ليحاسبهم. والذوق هو إحساس الإنسان بألم مقدمات الموت، التي تعتبر أكبر حقيقة على الإطلاق، وأعظم دليل عقلي إعجازي عن عدل الله ووحدانيته. لأنها تنهي كل شيء في هذه الحياة الدنيا؛ تنهي قوة القوي، وضعف الضعيف، وفقر الفقير، وغنى الغني، وجمال الجميل، وقبح القبيح، وسعادة السعيد، وتعاسة التعيس.. إنها نهاية الابتلاء، الذي هو في الحقيقة أعظم امتحان في الوجود، مصداقا لقوله سبحانه: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ" (الأنبياء : 35).

فبالرجوع إلى كلمة الابتلاء نستنتج أن القصد هو الاختبار؛ وبناء عليه فإن الابتلاء انطلاقا من هذا المعنى الدقيق أصبح غير مدموم، بينما تدم غايته، أي بعد هذا الابتلاء الذي هو في الحقيقة امتحان عظيم، يبقى السؤال الكبير هو: هل هناك نجاح بعده أم رسوب؟ إذن بإعمال العقل يتضح جليا أن الابتلاء نفسه غير مدموم إطلاقا! بل السقوط هو المدموم، أما النجاح والناجحين هم على العكس تماما من ذلك، إذ أنهم في شوق وعلى أتم؟ الاستعداد للقاء ربهم ونيل جوائزهم نتيجة استعدادهم وإخلاصهم في عملهم قيد حياتهم، التي أصبحت انطلاقا من هذا المنظور الفلسفي سوى مرحلة قصيرة جدا وأيام معدودة تشبه أيام الامتحانات مع الأخذ بعين الاعتبار السياق الخاص والعام، وكذلك عمر الكون. أما الأن ومن أجل قطع الطريق عن شياطين الجن والإنس، وللقضاء على وساوسهم الخبيثة، سنقوم نحن بطرح السؤال الطويل العريض المعروف في أوساط الملاحدة؛ وهو هل الله سبحانه وتعالى في حاجة إلى أن يعلم ليختبر؟

فنأتيهم بالرد الهادئ الحكيم بأن ربنا يختبرنا ليقيم علينا الحجة فقط، لكنه قد سبق في علمه عز وجل كل شيء، إذا الحقيقة الدقيقة أن ابتلاء الله لعباده لا ليعلم وإلا فهو عالم، وإنما ليقطع الحجة على خلقه، وتبقى شهادة يشهدون بها على أنفسهم يوم القيامة، فلا يستطيعون الفرار ولا المراوغة، ولا الإنكار أو التهرب من نتيجة الاختبار بين يدي الخالق سبحانه، وهذا من العدل الإلهي. والابتلاء يكون في الشر والخير على حد سواء، فما دام هناك اختبار فإنه سوف يشمل كل شيء، الابتلاء في الخير من أجل إقامة الحجة والدليل على أنفسنا، هل فعلا علمنا قيمة هذا الخير وناصرناه على خلق الله الضعاف، وهل نأدي به حق الله شكرا كثيرا. أم طغينا وتجبرنا، وتكبرنا. يقول المولى سبحانه: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ" (الحج : 11). المخاطب هنا الكل، جميع البشر معنيين بالابتلاء، الغني والفقير، القوي والضعيف، الرئيس والمرؤوس، الحاكم والمحكوم، العالم والمتعلم، الصحيح المعافى والمريض، كلنا فتنة لبعضنا البعض. 

لكن القاعدة الإسلامية العظيمة: تشاء يا عبدي وأشاء، فإذا رضيت بما أشاء، أعطيتك خيرا مما تشاء؛ فمثلا الغني ابتلاء للفقير، هل الفقير سيحمد الله على حاله ولا يحقد ولا يحسد الغني، ولا يتمنى له زوال النعمة، فإن فعل سقط في الامتحان، وإن رضا وفرح بقدره، واجتهد وشكر وحمد ربه على كل حال وطلب الله من فضله الكثير دون الالتفات لما عند الأخرين من نعم يكون بذلك قد نجح في الامتحان. والفقير كذلك فتنة للغني، فإذا ساعده، وحس بحاله، وتصدق عليه، وزكى على ماله، وعلم علم اليقين أن المال مال الله وأنه فقط وسيلة وقنطرة بينه وبين خلق الله، فإن قطع وضيق على المحتاج قطع الله عليه أسباب هذا الغنى وضيق عليه، أو إن طمع أكثر وتكبر وأنكر فضل الله عليه، يكون بذلك قد سقط في الامتحان أيضا، فقد يمهله الله إلى يوم الحساب والعقاب، أو قد يعاقبه في الدنيا بزوال نعمه سبحانه، كما أخبرنا القرآن الكريم: "وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا" (الكهف : 35).

undefined

فالذي يعتبر أن الحياة هي الهدف، سوف يعمل لا محالة على تحقيق أكبر قدر من اللذة فيها، أما الذي يعلم أن الحياة بالمعنى الفلسفي ليست هي الهدف الأسمى، بل فقط مرحلة. سوف يجتهد ويعمل للوصول إلى معرفة الهدف الحقيقي أولا؛ الذي هو لقاء الله والأخرة، إذن حسب العقل والمنطق فإن أعماله وسعيه قيد حياته سيكون في خدمة هذا الهدف لأنه مؤمن به. لكن الأخر الذي لا يؤمن إلا بالماديات؛ وما الحياة بالنسبة إليه إلا هذه الحياة الدنيا؛ ينتهي به المطاف معزول تماما عن الجانب الروحي فيه، ومقبل على ما تشتهي نفسه فقط، مقيد لا يستطيع الاقتراب مما يتعب نفسيته ويعارض هواه. الإنسان هو المخلوق الأول الذي يمكن أن يسبق الملائكة؛ لذلك قال أهل العلم والمعرفة سابقا أتحسب أنك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبر. الإنسان في حالات كثيرة يكون غافلا عن حاله، لذلك قالوا من الناس من يدري ويدري أنه يدري، فهذا عالم فاتبعوه، ومنهم من يدري ولا يدري أنه يدري، فهذا غافل فنبهوه، ومنهم من لا يدري ويدري أنه لا يدري، فهذا جاهل فعلموه، ومنهم من لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فهذا شيطان فاحدروه واجتنبوه. 

إن شيطان الإنس الحقود، إنسان معتقل من الداخل، سجين قفصه الصدري، يداه مغلولتان، لا يستطيع أن يمد يده الى أحد، وشريانيه مسدودة، و قلبه يطفح بالغل؛ وهذا ما يجعله فاقد لسر من أسرار السعادة ألا وهو انسجام الظاهر والباطن في وحدة متناسقة متناغمة تجعله مؤهلا لاستقبال كثير من الأحداث بما لا يناقض المعرفة الدقيقة للهدف، فيبني لذاته تصورا صحيحا، يستطيع من خلاله أن يرى عيوبه بنفس الدرجة التي يرى بها مزاياه، كما يرشده هذا التصور السليم كذلك إلى أن يكون إيجابيا في التعامل معها لا انفعاليا. ثنائية الحياة والموت ثنائية صعبة الفهم، عسيرة التصور والإدراك خارج كتاب الله، لأنه سبحانه وتعالى ضرب لخلقه فيه الأمثال واستعمل أساليب التشبيه لجلب القيم المعنوية المعقولة من مكامن الغيب، قصد تقريب الحقائق الروحانية والمعاني غير المحسوسة إلى أفهام بني الإنسان، وإلى مداركه العقلية، حتى تتاح له فرصة الفهم الدقيق، ثم الخيار والاختيار، من خلال الربط بين الجانبين المادي والروحاني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.