شعار قسم مدونات

الفرق بين بائع الكتب ورجال العصابات

BLOGS مرأة

أعتقد أن مشاهدة أفلام الأكشن ومسلسلات سرقة المصارف أفسدت علي ذوقي في الرجال. صار يعجبني كثيرا أولئك الرجال الأذكياء، الذين يضعون خطط السرقة أو الهرب من السجون أو اقتحام مراكز الشرطة، والذين يطلقون النار على أجساد حية فتتساقط الجثث من على جانبيهم دون أن يرف لهم رمش، ثم يعانقون حبيباتهم بوله. لهذا السبب لم يكن عصام الشاب الذي يعمل في المكتبة يثير لدي أية إعجاب، على الرغم من أنه لم يفوت فرصة للتودد لي. كنت أرى مظهره غير رجولي بما فيه الكفاية، كانت له عيون كعيون الأطفال، ترتبكان حين أطيل النظر إليهما، ولا تشيان بذكاء استثنائي، وكانت له ملامح مسالمة جدا وابتسامة وادعة، وكانت يداه أنثويتي الهيئة بأصابع طويلة رشيقة شديدة البياض، تنبئ عن أن صاحبها أمضى عمره بين الكتب. كان عصام ابن أخ صاحب المكتبة، وأمضى عمره فعلا على مقاعد الدراسة وخلف طاولة البيع بين رفوف الكتب.

في البداية، عندما كنت أمر من أمام متجره قبل الذهاب إلى الثانوية، لأقف أمام واجهة المحل وأتفقد هيئتي على انعكاس الزجاج، لم أكن أعرف أنه كان في الداخل يستطيع رؤيتي، وأنه كان يراقبني معتقدا أني كنت أطيل النظر إلى الكتب المعروضة في واجهة المحل. وعندما أطلَّ في أحد الأيام أخيرا من الباب ليقول لي: "تفضلي يا آنسة!". فتنتني غرته الطويلة التي كادت تغطي عينيه، وأعجبتني وسامته. حتى يداه كنت أراهما في البداية جذابتين وهما تخرجان من كمي قميصه المغلقين، بينما تستقر ساعة معدنية ثقيلة حول معصمه الأيمن، ولم الأيمن وليس الأيسر؟ أردت أن أسأله بينما كان يعرض علي كتبا قد تناسب ذوقي كفتاة في السابعة عشر… روايات غرامية، وقصص حب قصيرة، وأخرى بطلاتها يافعات في مثل سني، لكنني أحجمت عن السؤال وحاولت إبداء اهتمامي بما يقوله عن الكتب. كان صعبا علي أن أخبره أنني لا أحب القراءة، وأنني أفضل إمضاء وقت فراغي في التدرب على هز خصري كالراقصات الشرقيات المشهورات، بينما أربط وشاح أمي المورد على وركي. أردت حينها أن أبدو له مهتمة بالقراءة كالفتيات المثقفات.

كان ذكيا نعم، لكنه كان ذكيا على الطريقة الوادعة، كان باختصار شابا "طيبا"، أما أنا فكنت مفتونة برجال العصابات ذوي النظرات الحادة والأصوات العميقة والأعصاب الباردة، القادرين على مواجهة جحافل من الشرطة

انتهى اللقاء الأول في المكتبة بأربعة كتب عرض علي استعارتها بالمجان رغم أنهم كانوا يؤجرون الكتاب بعشر ليرات للأسبوع الواحد. في الأيام التالية صرت حذرة جدا أثناء مروري أمام المتجر، ولم أعد قادرة على تفقد هيئتي كما في السابق. كنت فقط أسترق نظرة سريعة إلى داخل المحل بصعوبة بسبب انعكاس ضوء الشمس الذي يمنع رؤية ما بالداخل، لأرى عصام دوما يترقب مروري بقلق، حتى إذا لمحني نهض وابتسم لي وهو يفرك عضده الأيسر بيده اليمنى بحركة لا شعورية، وكنت أرد بابتسامة خجولة.

أما في تلك الأوقات غير المعتادة التي كنت أمر بها من أمام المكتبة، كنت أرى عصام دوما حاشرا رأسه بين دفتي كتاب، غارقا في القراءة، بينما يقوم بأسنانه بقضم جلد شفتيه دون شعور، ولعل هذا هو سبب تورد شفتيه الدائم، لأنهما كانتا دوما متآكلتين. كنت أدخل المكتبة أحيانا لألقي التحية أو لأتذرع بشراء ممحاة أو مسطرة جديدة، فينتفض من مكانه ويقلب كتابه المفتوح بسرعة ليحييني بصوته الناعم. كان في البداية يسألني عن الكتب التي أعارني إياها، وبأيها بدأت وإلى أين وصلت، وكان محرجا لي مجددا أن أعترف بأنني لم أقرأ منها شيئا حتى الآن، ليس الأمر أني لم أحاول، بلى لقد حاولت، لكنها بدت مملة جدا، ومسهبة في وصف تفاصيل لا تهمني. كنت أتحجج باقتراب الامتحانات لأبرر تأخري بقراءتها، عارضة أن أعيدها على الفور حتى لا أسبب المشاكل له مع عمه، وحتى أنتهي أنا أيضا من هذه الورطة، لكنه كان يرفض بشدة مخبرا إياي أن بإمكاني الاحتفاظ بها قدر ما أشاء.

نعم كانت هذه ورطة حقيقية، ليس لأني لن أكون قادرة على تحمل إمضاء خمس دقائق في قراءة أحدها فقط، بل لأن عصام بالنسبة لي لم يعد جذابا على الإطلاق، وهذه الوسامة وهذه الجرأة التي توهمت أني رأيتها في عينيه في لقائنا الأول، بدت أنها تخبو مع مرور الوقت، ليحل محلها الخجل والارتباك ونعومة النساء. كان قادرا على أن يحدثني في التاريخ أو الأدب لثلاث ساعات متواصلة، دون أن يسرد لي مرة واحدة قصة عن مغامرة خطيرة فعلها في مراهقته مع رفاقه المتهورين، أو مقلب من العيار الثقيل نفذوه مع أستاذ الفلسفة في الثانوية.

كان ذكيا نعم، لكنه كان ذكيا على الطريقة الوادعة، كان باختصار شابا "طيبا"، أما أنا فكنت مفتونة برجال العصابات ذوي النظرات الحادة والأصوات العميقة والأعصاب الباردة، القادرين على مواجهة جحافل من الشرطة، والقادرين على القتل بدون أدنى تفكير، والذين يتلقون الرصاصات في أكتافهم ليستمروا في عراك خصومهم بشجاعة. عصام كان شيئا مختلفا، عصام كان مثل ممثل الكومبارس الذي يدعو للشفقة أو للسخرية في تلك المسلسلات، أو كان في أحسن الأحوال المسالم المسكين الذي ينقذه أبطال هؤلاء الأفلام!

من تفكر في النهاية في الوقوع في غرام شخص ثانوي كهذا؟ بالتأكيد لست أنا! كان ذلك قراري الأخير، قبل أن أبدأ بسلك طريق مختلف للمدرسة عن الطريق الذي يمر بالمكتبة، حتى أتجنب لقاء عصام، إنه لم يكن شجاعا بما فيه الكفاية حتى ليطلب رقم هاتفي! مرت ثلاثة أسابيع قبل أن أرى عصام يعترض طريقي الجديد على الرصيف، قرب سور حديقة خاصة، تتدلى من فوق قضبانها أغصان شجرة برتقال غزيرة الأوراق.

– ما الأمر؟ أقصد كيف حالك؟ لم لم أعد أراك؟ وقفت أمامه أعبث بحزام حقيبتي المدرسية الوردية، عاجزة عن النطق بأي حرف، كل ما كنت أفكر به حينها أن أحمر الشفاه الذي وضعته في مدخل البناء دون الاستعانة بمرآة ربما لم يكن مرسوما بدقة كافية، ولا أعرف كيف أبدو أمامه الآن. كنت قلقة من مظهري أكثر من قلقي من عجزي عن اختلاق حجة جاهزة في تلك اللحظة للإجابة على سؤاله!

– سأعيدُ الكتب لكَ غدا لو…
– أنا لا أتحدث عن الكتب!
قاطعني بنبرة عالية غاضبة..

– أنا أسأل عنكِ أنت! أخبريني هل جرى شيء ما بيننا على غير ما يرام؟ هل فعلت شيئاً أزعجك؟ هل ثمة مشكلة ما حصلت؟ هل عرف أهلك بالأمر؟ سأستطيع حل أي مشكلة وحمايتك من أي شيء، أنا مستعد لخطبتك الآن لو أحببت، لكن عليك أن تعلميني أولا بالأمر!

رغم أنني لم أكنْ أُكنُّ لعصام أية مشاعر بالفعل، لكنه بدا لي جذابا في تلك اللحظة، لا يتعلق الأمر بذكره لمسألة الخطوبة، ولكن انفعاله ونار الغضب الذي التهب في عينيه أعطوه مظهرا رجوليا لم أره فيه من قبل! فابتسمت بدون شعور مني وأنا أجمع شعري المموج كله إلى الطرف الأيمن، بينما كان انفعاله يذوي وهو يتأملني، لتتحول نظرته الغاضبة إلى نظرة رائقة فيها لهب خفي من الاشتياق الجامح.

– هل تعرفين أنك رائعة الجمال هكذا!

همس لي وهو يسند يده إلى سور الحديقة، لتبرز ساعته المعدنية من كم قميصه الأبيض المكوي، وليبدو جسده ممتدا أمامي مظللا جسدي بطوله الفارع. كانت تلك هي المرة الأولى التي أسمعه فيه ينطق غزلا صريحا، فشعرت بقلبي يقفز في صدري، واختفت ابتسامتي من شدة الارتباك. وفي تلك اللحظة هبت ريح قوية عبثت بشعري كله وأطلقته إلى الخلف، بينما انتشرت جراءها رائحة عطر عصام، وتراقصت غرته على جبينه حتى رفعها الهواء، لتبان جبهته العريضة الوضاءة كلها، وليبدو في تلك اللحظة شديد الجمال.

لا أدري كيف انتهى الحوار بيننا في ذلك اليوم، لكننا بالتأكيد لم نتطرق بعدها إلى موضوع تغيير طريق المدرسة، ولم يستمر عصام في معاتبتي! انتهينا على وعد باللقاء في المكتبة، ثم رحت أحث السير إلى المنزل وأنا أشعر بقلبي يخفق كطفلة خائفة ومتوترة وشديدة السعادة، ففي تلك اللحظة وتحت تلك السماء التي تلبدت فجأة بالغيوم وهبت ريحها العاتية، شعرتُ أنني وجدت بطلي الذي أبحث عنه. نعم، هو لا يخبئ سلاحا في جيب سترته الداخلي بالتأكيد، ولن يكون قادرا على اقتحام مصرف، أو قتل حارس أمن، ولكنه سيكون قادرا دوما على "حمايتي من كل شيء" كما قال لي، وسيكون قادرا دوما على أن يملك قلبي بهذه النظرة الرجولية الرائعة، وسيكون قادرا دوما على أن يجعلني أشعر معه بأنه ليس ثمة رجل آخر على وجه هذه الأرض سواه!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.