شعار قسم مدونات

لماذا انتشرت الإشاعات الحراك الجزائري؟

blogs الجزائر

تستخدم الحرب النفسية في السلم وفي الحرب على حد سواء، وهو أسلوب قديم جدًّا عرفته الإنسانية في صراعاتها، واستخدمه النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ قال: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» أي أن أعداءه كانوا ينهزمون رعبًا قبل أن يغزوهم -صلى الله عليه وسلم- بجيوشه، وللحرب النفسية تاريخ طويل؛ فلقد كان أول من استخدم هذا المصطلح المحلل العسكري البريطاني «ج. ف. س. فوللر» في عام 1920، ولم ينتشر استعمال هذا المصطلح في الولايات المتحدة الأمريكية إلا في عام 1940.

وتستخدم في المعارك الانتخابية في كل العالم، كما شهدت ذلك الولايات المتحدة الأمريكية في الانتخابات التي فاز فيها دونالد ترامب من أجل بث الهزيمة مسبقًا في نفوس أنصار هيلاري كلينتون بتشويه سمعتها، والتهويل الزائف من شعبية ترامب عن طريق فيسبوك وتويتر، كما استعملت في ليبيا للإطاحة بالحكومة الليبية ومعمر القذافي، عن طريق العاجل والأنباء غير المؤكدة بهروبه وطلبه اللجوء في بلدان أخرى، من أجل هروب رجاله واستسلام الجيش الليبي.

وقد شهدنا في الحراك الجزائري حربًا نفسية مماثلة، إذ بث أكثر من موقع أنباء عن هروب عائلة الرئيس بوتفليقة وبعض كبار المسؤولين للبلاد بمجرد خروج المتظاهرين إلى الساحات العامة، ثم خرجت العديد من المقاطع الصوتية مجهولة المصدر التي تحاول توريط الجيش الجزائري في الصراع ببث أخبار على صفحات التواصل الاجتماعي، بأن قوات الصاعقة ستلبس زي الشرطة وتطلق الرصاص على نفسها، ومن ثم على المتظاهرين، لإعطاء الذريعة اللازمة لتفريق المتظاهرين بالقوة.

التظاهرات التي خرجت ضد مادة دستورية واضحة وغير قابلة للتأويل، وهي تولي رئيس مجلس الأمة للفترة الإنتقالية ، تغديها أيضا إشاعة أن عبد القادر ين صالح الدي تولى مهام رئيس الدولة لمدة 90 يوما

ليأتي أحد المقاطع المصورة قديمًا على أساس أن الجيش والشرطة يحرسون مقبرة العالية، التي عادة ما تدفن فيها الشخصيات الرسمية للدولة، موحيًا بأن الرئيس قد توفي، وأنهم يستعدون لدفنه وسط إجراءات أمنية مشددة، وهو خبر تناقلته قنوات إخبارية دولية، ليظهر مقطع مصور مباشرة من المقبرة يظهر خلوها من أي حركة غير طبيعية، ويظهر الناس يمشون وسطها بشكل طبيعي، وزادت كمية الإشاعات بشكل مهول، لتخرج إحداها بالقول إن الجزائر تمنح البترول والغاز مجانًا لفرنسا وإسبانيا، مما تسبب بغليان كبير دعا من خلاله الكثيرون إلى الامتناع عن تسديد فواتير الغاز والكهرباء، مما من شأنه أن يوجه ضربة غير خفيفة للاقتصاد إذا عم هذا السلوك وانتشر إلى قطاعات حيوية أخرى، وبما أن المجتمعات المغلقة تميل طبيعيًّا نحو تصديق الإشاعة؛ فقد انتشرت الإشاعة سريعًا، وزادت خرجة وزير الخارجية نائب الوزير الأول رمطان لعمامرة من تغذية الإشاعات، التي صبت في معظمها في أن زيارته لروسيا من أجل تقديم عرض خيالي لروسيا من البترول، مقابل الحماية في مجلس الأمن بعد فتك النظام بالمتظاهرين قتلًا وتعذيبًا، مما أربك الحراك وأصبح يطالب برأس الوزير وكل النظام، وخرج شعار ترحلوا جميعًا، وصنف عمل الوزير في خانة الخيانة العظمى.

اللافت حقًّا هو تفشي إشاعة موت الرئيس في منصات التواصل الاجتماعي، والتغذية الإعلامية لأخبار تفيد وضع رجال الدولة ممتلكاتهم للبيع، وتهريب عائلاتهم بالجملة، وأن أكثر من 100 مسؤول قد سحبت منهم جوازات السفر، فيما يذكرنا بما حدث مع رئيس تونس السابق بن علي، وفي سياق مشابه أكدت قنوات خاصة جزائرية أن المجلس الدستوري قد اجتمع لتفعيل المادة 102 القاضية بشغور منصب الرئيس، وينتظر من الرئيس وأخيه الرد، دون تفاصيل عن كيف ومتى اجتمع المجلس، وماذا ينتظر من الرئيس، واليوم خرج خبر نقلًا عن وكالة الأنباء رويترز، يقول إن الشرطة قد أطلقت الرصاص المطاطي على المحتجين، وأردفته بآخر مفاده أن الشرطة صرحت بأن المظاهرة اليوم مليونية، وتطالب بتنحي بوتفليقة، مما يوحي بأن الخبر موجه للخارج، ومن أجل لفت نظر المجتمع الدولي للأزمة الجزائرية.

من آخر البيانات التي عبرت عن الإنتفاضة الأخيرة لميت، هو إعلان الرئاسة أن التحقيقات الجارية مع رجال الأعمال تتمم دون موافقة الرئاسة، وكأن لا قضاء في الجزائر يحرك الدعاوى ضد الفساد، ليليه بيان آخر يعلن أن الرئاسة ستعلن عن اجراءات وقرارت هامة، وراجت إشاعة إقالة قائد الأركان للإيحاء بوجود انقلاب يقوده الجيش، ليسارع الجيش بتفنيد الأمر والإعلان عن عدم شرعية أي بيان يصدر عن الرئاسة، ويلي ذلك مباشرة إشاعة أن الرئيس في غيبوبة مند الصباح للإيحاء انه لا يتخد أي قرار، ثم يأتي البيان الأقوى من الجيش الدي استعجل تفعيل المادة المتعلقة بشغور منصب الرئيس.

التظاهرات التي خرجت ضد مادة دستورية واضحة وغير قابلة للتأويل، وهي تولي رئيس مجلس الأمة للفترة الإنتقالية، تغديها أيضا إشاعة أن عبد القادر ين صالح الدي تولى مهام رئيس الدولة لمدة 90 يوما، جنسيته الحقيقية مغربية وهدا ما يعتبر امتدادا لإشاعة لاحقت الرئيس السابق بوتفليقة أنه مغربي الأصل، هدا التشكيك يعتبر مبررا غير ضعيف من أجل رفض مادة كانت جزءا من حل المشكلة الجزائرية وأصبحت اليوم جزءا من المشكل.

هذه الحرب النفسية التي تمارس بشكل ممنهج منذ بدء التظاهر في الجزائر، تنبع من أطراف عدة، قد تلتقي مصالحها ثم تتوازى خادمة لأهداف عدة، وتستخدم في أحيان من أجل تهييج الرأي العام المهتاج والمشحون أساسًا منذ سنوات، بعد سماعه عن سريان الفساد وصفقات الملايين، والضبابية التي لفت الرئيس ووضعه الصحي، وأن الحاكم الفعلي هم أخوه المستشار ومعاونوه من رجال الأعمال، هذا التهييج من شأنه أن يطبع المظاهرات السلمية بطابع العنف لتلقى المسؤولية على الشرطة والجيش، وخلق عداوة واضحة معه، خاصة وأن المؤسسة العسكرية تلتزم بدورها الدستوري حتى اللحظة، وتفنيدا للإشاعات على ما يبدو فإن الجيش طمأن الشعب ببيان مثير عن دعوة القضاء إلى المحاسبة وبأثر رجعي، والوقوف على مسافة واحدة من الجميع وهذا ما لا يرضي أطرافًا سياسية طالما أرادت أخذ مباركة الجيش للوصول للحكم. والسلمية التي طبعت التظاهرات حتى الآن تحسب أيضًا للنظام الذي لم يرد إدخال البلاد في فوضى واقتتال لا يعلم مدى خطورته إلا الله.

أخيرًا الحكمة القائلة بأن الإشاعة يؤلفها الحاقد، وينشرها الأحمق، ويصدقها الغبي أصبحت تطالبنا جميعًا بإعادة النظر فيما نسمع، وألا نغتر بناقلها من الذين يظهرون على الاستديوهات محاولين خلق بطولات وهمية، بكلام العارف بخبايا الأمور، والأيام كفيلة بتوضيح الحقائق، إلا أن الطرف المنتصر هو الذي أدار الحرب بطريقة من يعرف جيدا نفسية الشعوب وأين يتجه هواها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.