شعار قسم مدونات

معركة النقاب.. بين التشدد والوسطية

Blogs - hijab1

من المعلوم أنّ التكليف لا يكون إلّا بنصٍّ مُلزم، فإنّ لم يكن موجودًا، فإنّ ذمم الناس بريئة منه، ومن المعلوم أيضًا أنّ الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يوجد نصّ صحيح الثبوت صريح الدلالة على التحريم، ولذلك كان أئمة السلف – رضي الله عنهم – يتورعون عن إطلاق كلمة حرام إلّا فيما عُلم تحريمه جزمًا.

 

ما يثير الدهشة والعجب، أنّ بعضًا من أنصاف المتعلمين يقرأ نصوص الدين بتبجحٍ شديد، متعمدًا قولبتها بما يلائم هواه، ولا يتوّرع حتّى عن استخدام الأحاديث والمرويات الضعيفة والواهية – التي إن قُبلت ففي فضائل الأعمال، أما في الأحكام الشرعية فلا – ثمّ يبدأ بإطلاق الأحكام الشرعية قائلًا: " مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ "، فالصواب المُطلق عنده، وكُلّ من يخالفه آثم مخالف لفلسفة الإسلام ومقاصد الشريعة ! .

 

شعرت بالغثيان الشديد عندما سَمعت شيخًا من أدعياء السلفيّة يعتقد بوجوب النقاب على كُلّ مسلمة، ويشنّ هجومًا حادَّ الصرامة على من يُجيز كشف المرأة، إذّ أنّ كشف الوجه في نظره ذريعة مؤديّة للوقوع في الزنا !!، وإذا كان الإسلام قد أوجب كشف المرأة لوجهها في الحجّ، فهل كان بهذا يثير الغرائز ويمهّد للجريمة؟ أهكذا يكون الاستدلال؟

  

الخلاف في القضايا الفرعيّة سيظل قائمًا، إذّ أنّ النصوص التي تؤخذ منها الأحكام قابلة للإختلاف في الثبوت والدلالة، وأفهام البشر متفاوتة في القدرة على الإستنباط

وإذا كان القرآن يقول: "قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ" فما هو وجه الحثّ على غضّ البصر إنّ كان الوجه مكشوفًا؟ وفي الآية الكريمة: "وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ" فإنّه من المعروف أنّ الخمر جمع خمار وهو غطاء الرأس، والجيوب جمع جيب وهو فتحة الصدر، فالأمر هنا للنساء المؤمنات أنّ يسدلن بخمرهن وأغطيّة رؤوسهنّ بحيث تغطي النحور والصدور، وإذا كان ستر الوجه واجبًا، فلماذا لم تُصرّح به الأية الكريمة؟

 

وإذا كان قد ورد في الحديث الصحيح عن جابر بن عبد الله عندما يقول: " فقامت امرأة من سطّة النساء – أي من وسطهن – سعفاء الخدّين " فمن أين له أنّ يعرف أنّها سعفاء الخدين لو كان وجهها مغطّى بالنقاب ؟ وغيره من الأحاديث الصحيحة التي تدل على جواز كشف الوجه، وهل يُعقل أنّ قول جمهور أئمة الفقهاء منذ عصر الصحابة بجواز كشف الوجه خطأ ؟.. أرجو ألّا يفهم مما سبق أنني أكتب ضد النقاب، بل على النقيض من ذلك تمامًا، إنّما استحضرت هذه المسألة كمثالٍ على ضيقِ الأفقِ وعدم قبول رأي المُخالف بل والهجوم الحادّ عليه حتّى وإنّ كان الخلاف في مسألةٍ فرعية.

 

الخلاف في القضايا الفرعيّة سيظل قائمًا، إذّ أنّ النصوص التي تؤخذ منها الأحكام قابلة للإختلاف في الثبوت والدلالة، وأفهام البشر متفاوتة في القدرة على الإستنباط، وفي مدى الأخذ بظاهر النص أم بفحواه، بالرخصة ام العزيمة، ومن المعروف أنّ هذا الخلاف لا حرج فيه، بل إنّه من المعروف أنّه: " لا مخطئ في الاجتهادات الفرعيّة بل كلٌّ مُصيب".

 

أنّ تعتنق رأيًا معينًا في مسألةٍ فرّعية من حقك، لكنّ الذي ليس من حقك أنّ تحاول فرض رأيك على الجميع، وإنّه لمن التبجح أنّ تُفسّق وتُبدّع من يخالفك الرأي في مسألةٍ فقهية خلافيّة. إنّ التعصب المذهبي مسالة خُلقيّة وليست علميّة، إذّ أنّ الذي يتطامن لإخوانه المؤمنين، ويحسن الظن بهم، يربأ بنفسه من أنّ يُفسّقهم ويُبدّعهم!

 

ما الذي سيضير الإسلام إن اختار أهله مسألة فرعية دون أخرى ؟ والجواب لا شيء، لكنّ الذي سيجني على الإسلام هو الإنشغال في الإقتتال السخيف في مثل هذه القضايا الفرعيّة على حساب القضايا المصيرية. إنّ الإسلام مثخن بآلامٍ تهدُّ كيانه، والناظر لهذه السجالات الدائرة الرحى في المسائل الفرعيّة يفهم أنّ تَخلُّص الإسلام من آلامه وانتصاره عليها، هو من أورث هذه البطالة النفسيّة عند الكثير من أهله. والحقّ أنّ بعضًا من المحسوبين على الدعوة لا يعرفون شيئًا عن فقه الأولويات، فلا زلت ترّى أنّ المعارك الحاميّة الوطيس تدور حول ما هو مختلف فيه، ولا زلت ترى أنّهم ينشغلون بالفروع عن الأصول، وبالجزئيات عن الكليّات، وبالقشور عن اللباب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.