شعار قسم مدونات

النّهضة وشروطها عند مالك بن نبي

blogs مالك بن نبي

شغلت قضيّة النّهضة من حيث نشأتها وتكوّنها وتطوّرها حيّزا هاما من كتابات مالك بن نبي، فقد كان منهجه تحليل السّبل التي من شأنها أن تسهم في تحديد الكيفيّة التي تبني بها الأمم حضاراتها، وهذا لا يتأتّى إلا بمعرفة أسس البناء وإدراك عوامل الهدم وفهمهما فهما دقيقا من خلال النّظر في تاريخ الحضارات السّابقة، فهي كالسّلسلة الواحدة والأمم حلقاتها كما شبّهها ابن نبي، فكلّ أمّة من هذه الأمم مجبرة على القيام بدورها ضمن الحلقة الخاصّة بها ضمن إطار زمني محدّد والتّاريخ كفيل بالحكم عليها من حيثُ نجاحها أو فشلها، ويرى ابن نبي أن تكوين الحضارة إنّما يكون في نفس الظّروف والشّروط التي قامت بها الحضارة الأولى مستشهدا على ذلك بالحضارة الإسلاميّة في عصورها الزّاهرة.

كما سلّط ابن نبي الضّوء على علاقة رجال الدّين بالمناخ السّياسي السّائد وتأثير ذلك على نهضة الأمم وتطوّرها، وهذا من خلال مُسايرة ومُداهنة بعضهم لرجال السّياسة، مستشهداً على ذلك بما حدث في الجزائر حيث يقول: ".. وهكذا أتيح للإصلاح أن يمسك مقاليد النّهضة الجزائرية، وأمكنه أن يبعثها خلقا آخر بالرّوح الإسلاميّة التي تخلّصت من كابوس الأوثان، لقد كان ذلك ممكنا لو لم يشعر العلماء المصلحون بمركّب النّقص إزاء قادة السّياسة في ذلك العهد، فمالؤوهم وسايروهم"، وهذا الوضع لا ينطبق على الجزائر في تلك الحقبة فقط، بل برز بشكل واضح في السّنوات الأخيرة في بلداننا العربيّة من خلال استغلال بعض رجال الدّين مطيّة لنشر ودعم تصوّرات الحكّام لقضايا سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة تضمن لهم الاستمراريّة في الحكم ووأد أي تغيير من شأنه أن يخلق معارضة لهم أو للسّياسات التي يتبنّونها.

المدرسة العربيّة اليوم تعيش واقعا مزريا غابت فيه الكفاءة وحلّت فيه الرّداءة؛ ونظرا لأهمية الجانب الروحي والجانب الفكري فقد كان لهما دور محوري بارز في حضارتنا الإسلاميّة

إن الحكم الدكتاتوريّ القائم على بثّ الخوف في نفس كل طامح للتّغيير وإسكات أيّ صوت معارض لا يمكن أن يساهم في نهضة الأمم وازدهارها، يقول جورج أورويل: "من المستحيل أن تؤسّس حضارة على الخوف والكراهية والقسوة، فمثل هذه الحضارة إن وُجدت لا يمكن أن تبقى، لأنها ستكون خالية من أي حيويّة، ومن ثم ستتفسخ وتنهار من داخلها"، لهذا فالتغيير يعدّ من بين أهمّ الشّروط التي تقوم عليها أي حضارة وأساس كلّ نهضة، التّغيير الذي ينطلق من الفرد وصولا إلى الجماعة، بواسطته نأخذ العبر ونستشرف ما سيحدث في ضوء ما سبق، لخّصها مالك بن نبي في قوله: "وإنها لشرعة السماء، غيرّ نفسك تغيّر التّاريخ".

فالتّغيير يبدأ بنثر بذور الإصلاح في نفوس الأجيال من خلال تقديس الهيكلين الأساسيين المسجد والمدرسة باعتبارهما منطلقا للبعث الرّوحي والبعث الفكري اللذين هما عماد كلّ حضارة كما وصفهما ابن نبي، فللمسجد والمدرسة دور كبير في نشر الوعي وغرس الفضيلة بين أفراد المجتمع وأيّ مساس بهما من خلال توظيفهما لخدمة أجندات سياسية هو ضرب في صميم مكانتهما المرموقة، وهذا ما يُلاحظ اليوم في بلداننا العربية من خلال توجيه الخطاب الديني لخدمة مصالح شخصية ضيقة وحصره في مواضيع معينة وإهمال أخرى مع مساواتها لها في الأهمية بل يشكّل بعضها ركيزة أساسية لبناء أيّ حضارة وبعث أيّ نهضة، هذا بخصوص الجانب الرّوحي، أمّا الجانب الفكري فليس بأفضل من سابقه، فالمدرسة العربيّة اليوم تعيش واقعا مزريا غابت فيه الكفاءة وحلّت فيه الرّداءة؛ ونظرا لأهمية الجانب الروحي والجانب الفكري فقد كان لهما دور محوري بارز في حضارتنا الإسلاميّة من دار الأرقم بن أبي الأرقم إلى المسجد النّبوي زُرعت بذور العلم والمعرفة فأنبتت رجالا تشبّعوا روحيّا وفكريّا فأينعت أعظم حضارة في التاريخ.

في العرف الطّبي تشخيص المرض هو المرحلة التي تسبق وصف الدّواء، وحتى يكون العلاج ناجعا ينبغي أن يكون التّشخيص دقيقا، وهذا ما ينطبق على أمراض الأمم والشّعوب ، فتحديد مكان العلّة شرط لعلاجها، ومنه يقول ابن نبي: "… نجد كلّ مصلح قد وصف الوضع الرّاهن تبعا لرأيه أو مزاجه أو مهنته، فرأي رجل سياسي كجمال الدّين الأفغاني أن المشكلة السّياسية تحل بوسائل سياسية، بينما قد رأى رجل دين كالشّيخ محمد عبده لا تحلّ إلا بإصلاح العقيدة والوعظ" وهذا الوصف في رأي ابن نبي لا ينطبق على المرض بل على أعراضه، وهنا تكمن مشكلة العالم العربي الذي حاول حلّ مشكلاته من خلال استيراد حضارة جاهزة، وهذا بالارتماء في أحضان الحضارة الغربية والأخذ من غثها وسمينها، من نُظمها السّياسيّة والثّقافيّة والاقتصاديّة دون تمحيصٍ لشوائبها لدفعها وتحديدٍ لمواطنِ قوّتها لدعمها، فالبحث عن الدّواء قبل تحديد نوع المرض لا يسهم في العلاج بل يفاقم من حجم المشكلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.