شعار قسم مدونات

كيف يدفع النظام العسكري المصريين للانتحار؟

blogs حزن

أصبح تزايد حالات الانتحار في مصر كابوسا يؤرق النظام الحاكم. وليس ذلك حزنا على المنتحرين أو حرصا على حياة المعرضين للانتحار، بل خوفا من أن يتسبب في اندلاع ثورة شعبية قد تطيح به. فلم ينس النظام ولا المصريون أن انتحار المواطن التونسي "طارق البوعزيزي" في يناير2011 رفضا للظلم والقمع والظروف الاقتصادية، قد أشعل ثورة شعبية أطاحت بنظام حكم سلطوي، ونقل تونس إلى الحرية والديموقراطية، كما كان بداية للربيع العربي الذي امتد إلى دول أخرى لا تزال تناضل من أجل حريتها ومنها مصر.

  

لذا يحاول النظام الحاكم في مصر التنصل من مسئوليته عن تزايد معدلات الانتحار خاصة بين الشباب منذ الانقلاب العسكري عام 2013. وذلك بالتهوين من شأنها، وبالقول بأنها طبيعية مقارنة بعدد السكان، وبإرجاع أسبابها لأمراض نفسية ومشكلات فردية، وبإلقاء اللوم على المنتحر وأسرته والمجتمع. ويستعين في ذلك ببعض الإعلاميين ورجال الدين والمتخصصين بعلمي النفس والاجتماع من الموالين له.

 

مثال ذلك ما حدث عقب انتحار الشاب "نادر جميل" من أعلى برج القاهرة في 30 نوفمبر 2019. حين قام الإعلامي الموالي للنظام "عمرو أديب" في الثاني من ديسمبر 2019 ومن خلال برنامجه "الحكاية"، باستضافة الدكتورة/ سهير لطفي- أستاذ علم الاجتماع ومدير المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية سابقا، لتحليل ظاهرة الانتحار المتزايدة في مصر من وجهة نظر علم الاجتماع، وكان من أبرز ما قالته الدكتورة/ سهير لطفي أن الانتحار ينجم عن أمراض ومشكلات وخصائص نفسية واجتماعية، وأنه مسئولية الفرد والأسرة والمجتمع، كما نفت ارتباط الانتحار بالفقر أو الغنى. ومع الإقرار بصحة بعض ما قالته سيادتها، إلا أنه لا يمكن التسليم بعدم وجود علاقة بين الانتحار والفقر تحديدا. ولا يمكن كذلك قبول القول بمسئولية الفرد والأسرة والمجتمع فقط عن الانتحار. الأمر الذي يطرح تساؤلات حول مدى منهجية وموضوعية تحليل الدكتورة/ سهير لطفي لظاهرة الانتحار في مصر. فهل هذا ما يخبرنا به علم الاجتماع حقا؟

  

أي دارس لعلم الاجتماع ليعرف بالضرورة أنه لا يمكن فهم وتحليل السلوك الفردي والظاهرة الاجتماعية بمعزل عن سياقهما العام والبيئة المحيطة

إن آراء مؤسسي علم الاجتماع الأوائل عن أسباب الانتحار لا توافق ما قالته الدكتورة/ سهير لطفي فيما يتعلق بنفي وجود علاقة بينه وبين الفقر من ناحية، وتجاهل مسئولية النظام الحاكم عن الانتحار من ناحية أخرى. حيث يرى "عبد الرحمن بن خلدون" مؤسس علم العمران البشرى أن "الظلم مؤذن بخراب العمران". ويفسر ذلك بأن ظلم الحاكم للرعية من عوامل خراب العمران البشرى كيانا وإنسانا وأوطانا. كما أكد مؤسس علم الاجتماع "إيميل دوركايم" أن الانتحار ينجم عن خطأ ما في النظام، وقوة تتجاوز قدرات الفرد، وأن الأنظمة القمعية تدفع أفرادها للانتحار بشكل متزايد.

 

وفي حديث لها مع وكالة الأناضول في ديسمبر 2014، أكدت الدكتورة/ عزة كريّم- أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، أن المعاناة الشديدة والضغوط الاقتصادية والاجتماعية وغياب العدالة من أهم أسباب الانتحار، وفي يونيو 2019، أصدرت المؤسسة العربية لدعم المجتمع المدني وحقوق الإنسان تقريرا عن الانتحار في مصر، مؤكدة أن الوضع الاقتصادي المتدني من أبرز أسباب الانتحار. كما وثقت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان تسع حالات انتحار في مصر في يناير 2019 كلها بسبب الفقر، وهكذا يبدو التناقض بين ما قالته الدكتورة/ سهير لطفي وآراء غيرها من المتخصصين في علم الاجتماع ومؤسسيه عن علاقة الانتحار بكل من الفقر، وغياب العدالة، وانتشار الظلم والقهر. فكيف إذن يمكن تفسير ادعاء الدكتورة /سهير لطفي أن الانتحار لا علاقة له بالفقر، وكذلك تجاهلها لمسئولية النظام الحاكم عنه؟

 

إن أي دارس لعلم الاجتماع ليعرف بالضرورة أنه لا يمكن فهم وتحليل السلوك الفردي والظاهرة الاجتماعية بمعزل عن سياقهما العام والبيئة المحيطة بما في ذلك العوامل السياسية والاقتصادية والثقافية.. إلخ. وفي تقديري أن حديث الدكتورة / سهير لطفي عن الأمراض الاجتماعية والنفسية كدوافع للانتحار دون تحليل أسباب تلك الأمراض يعد اجتزاء للحقيقة. وبالمثل فإن إلقاءها المسئولية عن الانتحار على عاتق الفرد والأسرة والمجتمع دون التطرق لدور النظام الحاكم في خلق المناخ الضاغط والظروف الدافعة للانتحار يعد من أشكال النفاق السياسي، ومداهنة النظام، وتوظيف العلم لخدمة السلطة على حساب الأمانة العلمية والمهنية، فضلا عن التدليس على العلم والمواطنين.

 

وفي تصوري أنه من سخرية القدر أن يتم اختيار الدكتورة/ سهير لطفي تحديدا لمثل هذا التبرير، وتحميل المنتحر وأسرته مسئولة الانتحار. خاصة أن تاريخ سيادتها المهني لا يخلو من واقعة ظلم وفساد إداري ومهني وقانوني، كادت بفعله أن تكون هي نفسها سببا في حالة انتحار مماثلة. وتفسير ذلك أنه أثناء ترأسها للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، قامت بحذف اسم متقدم لشغل وظيفة معيد بالمركز رغم اجتيازه منفردا كل الاختبارات دون منافس، واستبداله باسم شخص آخر مجاملة لأحد الوزراء في ذلك الوقت. ضاربة عرض الحائط بكل المعايير المهنية والقانونية والأخلاقية، وإن كانت الدكتورة/ سهير لطفي قد أهدرت عمدا حق ذلك الشخص غير مكترثة بالعواقب التي تحملها وذلك مجاملة لوزير، فمن الطبيعي والمتوقع أن تقوم بالشيء نفسه مع ضحايا الانتحار وأسرهم مداهنة للنظام الحاكم وتملقا للسلطة.

 

لا يزال الأمل معقودا على تطوير الشباب لقدرات ذاتية وتنظيمية وحراكية واعية، يستطيعون بها القيام بالموجة الثانية من ثورة يناير 2011 لإسقاط حكم العسكر

مثال آخر لمداهنة الدكتورة/سهير لطفي للنظام على حساب العلم ومصلحة المواطنين تمثل فيما وصفت به محاولة وزير التعليم طارق شوقي لتطبيق نظام التابلت بأنها أول تطوير حقيقي للتعليم في مصر، وبررت الانتقادات التي وجهت للتجربة برفض الأهالي لعملية الإصلاح وتغلغل الدروس الخصوصية في جينات الأسر المصرية. وذلك وفقا لما جاء بموقع "مصرس" في 29 نوفمبر 2018. على حين لم تتطرق سيادتها لتحديات أخرى منها طبيعة البيئة المدرسية، وكثافة الفصول المرتفعة، وتأهيل المدرسين، وعدم جاهزية المدارس بشبكات انترنت سريعة تتحمل استخدام آلاف الطلاب معا لا سيما أوقات الامتحانات. وهي العوامل نفسها التي استخدمها الوزير لاحقا لتبرير فشل تجربته الذي أدى لاحتجاجات طلابية في مايو 2019.

 

وعودة إلى موضوع الانتحار، فإنه لا يمكن لأي متخصص موضوعي في علم الاجتماع أن يتجاهل مسئولية النظام الحاكم عن ارتفاع معدلات الانتحار في مصر منذ الانقلاب العسكري 2013، وذلك في ضوء سياساته الاقتصادية غير الرشيدة التي أدت إلى ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والعجز عن إشباع الحاجات الأساسية للمواطنين. فضلا عن السياسات الأمنية القائمة على القوة الغاشمة والقمع وتكميم الأفواه. تلك السياسات التي أدت إلى تكريس اليأس والإحباط وفقدان الرغبة في الحياة، وبالتالي تزايد حالات الانتحار. 

 

إن الحل الأمثل لأي مشكلة يتطلب بالضرورة معالجة أسبابها. لذا فإن علاج الانتحار يتأتى بالقناعة بأنه ليس السبيل الأمثل للخلاص من ظروف حياتية قاهرة، وبأن الخلاص الحقيقي هو في القضاء على تلك الظروف وإسقاط النظام الذي يوجدها ويكرس لها. وكذلك يرتبط بالإيمان بأن حياة الشباب أكثر قيمة وجدوى من نظام يضعفهم بالفقر والجهل والمرض، ويحبطهم بالبطالة وتدنى الدخل وتأخر سن الزواج وارتفاع تكاليف المعيشة والتمايز الطبقي والفئوي. فضلا عن الأمراض الاجتماعية والنفسية الناجمة عن سياساته. ذلك النظام الذي يقتلهم برصاص أجهزته الأمنية في البيوت والشوارع، ويقتلهم بالتعذيب والإهمال الطبي في أقسام الشرطة والسجون، ويقتلهم بأحكام إعدام جائرة.

 

ولا يزال الأمل معقودا على تطوير الشباب لقدرات ذاتية وتنظيمية وحراكية واعية، يستطيعون بها القيام بالموجة الثانية من ثورة يناير 2011 لإسقاط حكم العسكر الذي لا يكترث بهم، واستبداله بآخر مدني ديموقراطي يوفر لكل المصريين العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. ومن المرجح حينها أن تختفي ظاهرة انتحار الشباب في مصر، أو على الأقل تنخفض معدلاتها كثيرا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.