شعار قسم مدونات

أوطاننا مقبرة لأحلامنا

blogs حزن

جميعنا شهد تلك الطفولة الجميلة البريئة التي قد تجعل كل منا يحيا عالمه لوحْده، يشهد تحقق أحلامه في خيالاته، فتجدْه في لحظة تفكر واحدة، قد وصل لأعلى درجة من التفاؤل الذي يسيطر على مخيلته لمجرد تخيل نفسه ذاك الشيء المرغوب الذي يسعى لبنائه مرة واحدة ودون بذل لأدنى جهد، بسيطا كان أو عظيما.

 

لا يلام؛ فهو ما زال ذاك الطفل البريء الذي لم ير من وطنه شيئا سوى الشمس المشرقة والربيع المزهر والحنان الأبوي الذي يجعله ملكا في عرش قلبه، فهو ما زال يمزج أحلامه ويربطها بهذا الجمال الإلهي الذي يراه "بالوطن"، رغم الحرمان الذي يمكن أن يواجهه، ولكنه يبقى مرتبطا ارتباط الروح بالمكان الذي عاش فيه؛ لأن الإنسان بطبيعته تعبره الأماكن قبل أنْ يعبرها فتستقر فيه قبل أنْ يستقر فيها.

 

تجد المفكر والباحث والمهندس والطبيب والعالم والمبرمج وجميع منْ حمل حلما يوما كلهم دفنهم الزمن مع أحلامهم وكأنه هناك مقبرة خاصة تولد مع ميلاد كل فرد هنا

كبرنا وكبرت أحلامنا معنا، ومع ازدياد الزمن يزداد ذاك الشيء الداخلي الذي يسيطر علينا، فيجعل طموح كل واحد فينا يعانق عنان السماء، ومع كل ازدياد للزمن يزداد الخوف؛ ليجتاح قلوب الحالمين، فيجعلهم يصطدمون بالواقع الذي لا ينفك أن يردي أحلامنا فريسة لخذلان الزمن الذي يمْتص كل شغف داخل أنفسنا، وكأننا أبناء الزناة لهذا الوطن الذي قد تزداد شراسته مع ازدياد الحلم داخلنا، نظن للحظة لشدة قسوته وكأن هذا الوطن الذي لطالما تغنينا بحبه وكبرْنا على عشق ترابه بات العدو الأكبر لنا، وكأنه يطارد كل أمل يمكن أنْ يحيا داخلنا لبضع لحظات، فهو لا يهنأ إلا بوأده قبل أن يبصر النور لبضع الوقت فقط.

 

نمر على العابرين في هذا الزمن الكادحين العاملين الحاملين لكل شغف، الباحثين عن حق الحلم، الماضين في سبيل تحقيقه، ننظر إليهم فنرى الشقاء يسطر أثره في تقاسيم وجوههم، ترى الدمع مترعرع بين أجفانهم ينتظر أي لحظة انهزام منهم؛ لينهمر ويعبر عن بؤس رافقهم طوال سنين عمرهم متحسرا على سنوات دراسية ذهبت هباء منثورا، وفرحة رافقت طفولتهم؛ فغدت هذه الفرحة يتيمة لا أب ولا أم لها، فرحة عارية عن كل التي بعدها، ترافقها دموع الصبر وصمت القهر الذي يطارد أرواحهم قبل ما طارد أحلامهم يوما ما..

 

تجد بائسا يبكي على سنين عمره التي بذلها في سبيل شهادة جامعية لم ير منها سوى ورقة تعلق على حائط المنزل، هذا -إنْ وجد منزلا يلم شتاته فيه من الأصل، تجد بائتا تقاسيم اليأس بادية عليه، قضى سنوات من عمره متفوقا باحثا متعلما لم يجد من هذا العلم سوى عربة للخضار أو الحلويات يقتات عليها قوْت يومه، يصارع الذل كل يوم، يحاول أن يحافظ على بقية كرامة بعثرها وطن كسر كل شيء فينا، حتى بات يجاهد ليكسرنا وكأنه يريد أن نغادر هذه الجنة ولكنها جنة حارقة تأكل كل شيء فينا، حتى غدونا ضحايا له بدل أن يقاتل لأجل أن يرفع جبين أبنائه عاليا.

 

تجد المفكر والباحث والمهندس والطبيب والعالم والمبرمج وجميع منْ حمل حلما يوما كلهم دفنهم الزمن مع أحلامهم وكأنه هناك مقبرة خاصة تولد مع ميلاد كل فرد هنا، مقبرة تحوي حلم وشغف وأمل كل باحث عن الحياة، هنا تدفن كل شيء يخصه قبل دفنه هو، تظن لوهلة أن الوطن اتسع لكل شيء فيه -للسارقين العابثين المتسولين الفاسدين المتسلقين على أحلام غيرهم الرافضين لأي خير حولهم للمتمرسين للشر وحاضنيه.

 

ولكنه لم يتسع يوما لحالم بحث عن حلمه بين جنبات وعلى ثرى وطن عاش كل بؤسه فيه على أمل أنْ يجد نفسه يوما ما محققا لأدنى أمل لديه، لم يتسع لحالم اختار نصْرة وطنه على نصرة نفسه، ولكن عبثا تحاول لا وصول لحالم في مكان آثر ردْم كل جمال حوله ليغدو كل ما فيه رماد، فغدا الوطن الساكن فينا والقاتل لنا، لا نحن نستطيع العيش دونه ولا نحن بالقادرين على العيش دونه..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.