شعار قسم مدونات

أردت أن أصبح مجرمًا لكنني أخفقت في ذلك!

blogs مجرم

لقطات من الذاكرة… أتذكر في الطفولة أنني كنت معجبًا بالمجرمين، وصدقوني حين أقول لكم بأن هذا لم يكن حالي وحدي فقط، فغالبًا ما كانت أحاديثنا نحن الصبية تدور حول مغامرات مجرمي الحي. كنا نتحمس جدًا حينما يُقرر أحد الأشخاص أن يحمل سكينه الكبير ويبدأ سهرته الخاصة، فيُعلن بذلك شيئين اثنين: أولًا: نهاية الخِدمة لدى الدكاكين والباعة وجميع أصحاب المحلات التجارية، فيُغلق الجميع محلاته بسرعة البرق، تفاديًا لتعرض زجاج واجهاتها للكسر. ثانيًا، وهذا هو الأهم، لا ينام تلك الليلة أي شخص من الحي، ولا يعرف أحد كيف ستنتهي الحكاية؟ هل بتدخل الشرطة (وقليلًا ما يحدث هذا الأمر) أم بشجار كبير يموت في نهايته أحد الأطراف؟ أم نهاية أخرى غير متوقعة!

 

وفي اليوم الموالي، كنا نحن الأطفال الصغار، نتنافس في تقليد ومحاكاة أولئك المجرمين. فكنا نحمل في أيدينا عصيًا ونتظاهر بأنها سكاكين من الحجم الكبير، نضرب بعضنا البعض، ونتقمص أدوار أشد المجرمين بأسًا وأكثرهم فتكًا! كما يتظاهر بعضنا بأنه تاجر مخدرات، ويتولى البقية تمثيل دور المدمن الذي يدخن السجائر والممنوعات.

  

العديد من المبادئ والأخلاق التي كانت تلقنني إياها أمي، لم أكن أستوعبها بالدرجة الكافية، لكنها ظلت عالقة بذهني إلى أن حان الوقت المناسب الذي نضجتُ فيه بشكل كافٍ، فأدركت أهميتها!

هل لاحظتم معي مدى خطورة الموضوع؟ إن الأمر يتم بطريقة شبه فطرية: تشاهد مجرمًا يهابه الجميع، فتريد أن تكون قويًا مهابًا مثله، يخافك الجميع، ولا يجرؤ أي أحد على مضايقتك أو التنمر بك! إن الأمر يشبه تمامًا حينما كنا نشاهد فيلمًا لجاكي شان أو بروس لي فنبدأ في تقليد حركاته الرياضية بعد نهاية الفيلم. إلا أن الإجرام وكسر الأبواب والنوافذ، وتحطيم السيارات وغيرها، لم يكن فيلمًا هوليوديًا، بل كان أشبه ما يكون ب "برامج الواقع" التي نشاهدها مباشرة وبتقنية ثلاثية الأبعاد، بل ونشاهدها بشكل شبه يومي، فنجد أنفسنا "مضطرين" لاتخاذ ذلك "الممثل/المجرم" قدوة لنا لنعيد "تمثيل" لقطاته لاحقًا!

  

 

من جهة أخرى، كانت أمي تمارس معنا (أنا وأخي) في المنزل نوعًا من "الماراثون التربوي". فقط تخيلوا معي حجم الجهد والتفاني الذي تتطلبه عملية تربية طفلٍ ليصبح إنسانًا صالحًا لنفسه ومفيدًا للمجتمع! وحتى لو افترضنا أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتوفرة للطفل هي ظروف ملائمة وجيدة، تبقى أيضًا المهمة جد صعبة! فما بالك بتربية طفلين في وسط اجتماعي يعج بباعة المخدرات واللصوص وقُطاع الطرق والمجرمين؟ ألا تعتقدون أن المهمة التربوية تتحول إلى "المهمة مستحيلة"؟

 

أنا أعتبر نفسي محظوظًا لكوني وُلدت في كنف أسرة تهتم بالمبادئ الدينية والأخلاقية وتُقدسها إلى أبعد حد، وبالتالي فإنني كنت أجد أمامي حاجزًا أخلاقيًا يحميني، ويَحُول بيني وبين انغماسي في حياة الإجرام، والفضل في ذلك يعود بالدرجة الأولى لأبي وأمي، وخصوصًا والدتي التي كانت تقضي معي ساعات طويلة وهي تحاورني وتحاول أن تشرح لي الفرق بين الخير والشر، العدل والظلم، الجمال والقبح. وأعترف بأن العديد من المبادئ والأخلاق التي كانت تلقنني إياها أمي، لم أكن أستوعبها بالدرجة الكافية، لكنها ظلت عالقة بذهني إلى أن حان الوقت المناسب الذي نضجتُ فيه بشكل كافٍ، فأدركت أهميتها!

 

بينما على الجانب الآخر كان عدد كبير من أصدقاء الطفولة الذين لم يُحالفهم الحظ مثلي، والذين وجدوا أنفسهم يعيشون داخل أسر لم تقدم لهم الرعاية والاهتمام الكافييْن، فانزلقوا من حيث لا يدرون، في تلك الطريق السيئة، فوجدوا أنفسهم غارقين في مستنقع الإجرام، ومن كان منهم أوفر حظًا اكتفى بإدمان التدخين وتعاطي المخدرات.

 

الحل إذن أن يقوم كل واحد بدوره الصغير من مكانه الخاص. أن تهتم الأسر بأبنائها، وأن يقدم الأستاذ دروسًا تربوية وتعليمية بروح أخلاقية، أن يقدم الإعلامي موادًا إعلامية تساهم في تنمية الوعي

هذه القصة القصيرة والواقعية تفتح أمامنا الباب للعديد من زوايا النظر والتفكير، ومحاولات الفهم والتأويل. لكن التساؤل نفسه يظل قائمًا: مَن المسؤول عن انتشار الجريمة في الأحياء الشعبية؟ هل مردُّ ذلك إلى غياب التربية السليمة والاهتمام الأُسري في المنزل؟ هل السبب هو فشل المدرسة في القيام بدورها التربوي قبل التعليمي؟ هل السبب هو تأثير المجتمع القائم سلفًا؟ هل السبب هو غياب سياسة ورؤية أمنية لمحاربة الجريمة؟ هل هي كل هذه الأسباب مجتمعة معًا؟ أم هناك أسباب أخرى!

 

رأيي أنا، هو أن المسؤولية مشتركة بين الجميع. نحن جميعنا، كل واحد من مكانه، ساهمنا بشكل أو بآخر في انتشار الجريمة. الأسرة المُهمِلة لأبنائها، والمدرسة التي تغيب فيها روح التربية، والإعلام الذي لا يمارس دوره التوعوي بشكل فعال، والسياسيين الذين لا يُقدمون مقترحات قوانين زجرية وصارمة تجعل الإنسان يفكر مرات ومرات قبل أن يُقدِم على اقتراف جريمة ما، أيضًا غياب مناطق ترفيهية وملاعب رياضية ودور شباب تهتم بالفنون واللغات وغيرها، هي من الأسباب المهمة التي تؤدي إلى زيادة تفاقم المشكل.

  

يستحيل إذن، بالنظر إلى ما سبق ذكره، اختزال انتشار الجريمة فقط في غياب الشرطة أو "المخزن" حسب فهم الحس المشترك. الحل إذن أن يقوم كل واحد بدوره الصغير من مكانه الخاص. أن تهتم الأسر بأبنائها، وأن يقدم الأستاذ دروسًا تربوية وتعليمية بروح أخلاقية، أن يقدم الإعلامي موادًا إعلامية تساهم في تنمية الوعي والثقافة، وأن تصاغ البرامج الترفيهية بشكل أخلاقي جيد يخلو من الطابع "الفضائحي" الذي يختار "شاهد قبل الحذف" عنوانًا له! أن يطالب المجتمع ببناء دور شباب، وأن يتطوع أشخاص لمساعدة الأطفال على تعلم اللغات وممارسة الرياضات وتعلم الموسيقى وغيرها … والأهم أن يتوقف الجميع عن تعليق مشاكله وإخفاقاته على الدولة لوحدها!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.