شعار قسم مدونات

الاستعمار الجديد.. اللغة بين الانفتاح الحضاري والاستيلاب الثقافي

blogs تعلم اللغة العربية

لكل جماعة بشرية على مر التاريخ مكونات تحفظ وجودها وتمكنها من التميز عن باقي الجماعات، وتعتبر اللغة أحد أهم تلك المكونات لعدة اعتبارات، فهي ليست مجرد وسيلة تحقق التواصل بين أبناء المنطقة الإقليمية الواحدة، التي تشترك في عدة مكونات ثقافية ودينية وغيرها، وإنما هي وعاء حامل للقيم والتراث والهوية الحضارية والثقافية، ولذلك فهدم اللغة والقضاء عليها هو الطريق الأيسر للسطو والسيطرة على مجتمع ما ووسيلة لتمييع ثقافته وفقدان الثقة بنفسه، وذلك لما يخلقه توظيف لغة أجنبية لا تنتمي للحقل الثقافي لمجتمع ما وجعلها وسيلة تعبيره وتواصله وتكوينه، فاللغة لا تدخل لوحدها كعبارات وأساليب تعبيرية بل تدخل أيضا هو الأخطر كقيم وتصورات فكرية ومرجعيات تجعل من نفسها الأنسب الأوثق والأجود والأليق بعصر العولمة والحداثة، فتفرض وجودها ليس كلغة تحقق الانفتاح الذي يفرضه واقع التقارب الكوني وإنما كثقافة تضرب أخر وجود للثقافة الأصل.

إن هيمنة لغة أجنبية كالفرنسية على المجتمع المغربي، في الشارع والمدرسة والإدارة.. في مقابل إهمال العربية والأمازيغية بل والدعوة إلى توظيف اللهجة الدارجة، في المقررات الدراسية تفتح الباب لعدة أزمات ومشاكل كبيرة، فإذا كان العهد الذي خضع فيه المغرب لاستعمار غير مباشر تحت اسم الحماية يدخل في البنية الاقتصادية والسياسية الاجتماعية، فإنه اليوم باستمرار توظيف اللغة الفرنسية، يخضع لشكل أخر من أشكال الاستعمار وهو الأخطر حيث في ضل تنامي الوعي بخطر التبعية والبحث عن البدائل الممكنة لحفظ الهويات والثقافات والانفتاح الإيجابي الذي لا يتحقق دون الحفاظ على مكونات الشعوب الأصلية نجد عند الشعوب الناطقة بالعربية استمرار في تكريس التبعية والاستيلاب الحضاري على عدة مستويات وأهمها اللغة.

الأثر الثقافي والتاريخي داخل اللغة:
العصر الذي نعيشه عصر يفرض على المجتمعات الإنسانية على اختلاف ألسنتها وثقافاتها، التواصل، بل التعايش ذلك أنه قد أصبح من الصعب القول بالهوية الواحدة، في مقابل المتعددة

من الصعب الفصل بين اللغة والفكر والثقافة والمجتمع، بل ربما يعتبر القول بذلك قول مجانب للصواب تماما، فعلى الرغم من اختلاف بعض الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع حول علاقة اللغة بالفكر، إلا أنه لا يعني أن تمت انفصال تام بين المتكلم واللغة وبالتالي بين محيطه ومكوناته السوسيوثقافية ولسانه، فالدراسات اللسانية قد اشتغلت بهذا الموضوع كثيرا بدا بعالم اللغة الفرنسي الشهير دي سوير مؤسس البنيوية إلى البنيويون الجدد بأمريكا، حيث هناك تباين في مواقفهم إلا أن علم الاجتماع اللغوي Sociolinguistics وهو أحد العلوم التي اهتمت بالتأثير الاجتماعي والثقافي على اللغة، حاول دراسة اللغة في علاقتها بالمجتمع ومكوناته البيئية والثقافية والمكانية، ويعتبر William Labov(1927) أحد مؤسسي هذا العلم وقد لفت النظر إلى أهمية دراسة اللغة في علاقاتها المتعددة مع المحيط الثقافي فهناك إذن تباين بين البنيوية الأوربية، وبين البنيوية المعاصرة الأمريكية فالبنيوية الأوروبية تميز بين اللغة بصفتها نسقا أو نظاما من العلامات، واللغة باعتبارها القدرة على الكلام، واللغة في صلتها بفعل التلفظ أو التحدث في حين البنيوية الأمريكية تربط اللغة بالتحول التاريخي والاجتماعي الثقافي الذي يعتبر محدد من المحددات التي تميز اللغة.

 

وقد أشار ميشيل فوكوا إلى تلك العلاقة عندما تحدث عن اللغة والمجتمع، وقبله نبه ابن خلدون إلى خصوصية الشعوب في طبيعة ألسنتهم قال "واعلم أن اللغة في المتعارف عليه هي عبارة المتكلم عن مقصودة، وتلك العبارة فعل لساني ناشئ عن القصد بإفادة الكلام فلا بد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل وهو اللسان، وهو في كل أمة بحسب اصطلاحهم" ما يهمنا في قوله هو قوله "كل أمة بحسب اصطلاحهم" إشارة إلى اختلاف الأمم في اصطلاحاتهم، والاختلاف في ذلك إنما ينشأ عن الاختلاف الفكري والثقافي والمرجعي.

وبالتالي فاللغة حاملة للقيم والعادات والأعراف بل لأنماط التفكير وكثيرا ما تمكن اللغة من فهم مميزات بعض الشعوب وفي هذا السياق نجد الدكتور محمد عابد الجابري في مشروعه نقد العقل العربي يعتمد على اللغة كمحدد لفهم طبيعة تكوين العقل العربي يقول "اللغة تحدد أو على الأقل تساهم مساهمة أساسية في تحديد نظرة الإنسان إلى الكون وتصوره له ككل وكأجزاء، ولاحظنا أن اللغة العربية ربما كانت اللغة الحية الوحيدة في العالم التي ظلت هي هي في كلماتها ونحوها وتراكيبها منذ أربعة عشر قرنا على الأقل، أدركنا مدى ما يمكن أن يكون من تأثير لهذه اللغة على العقل العربي ونظرته إلى الأشياء، تلك النظرة التي لابد أن تتأثر قليلا أو كثيرا، بالنظرة التي تجرها معها اللغة العربية منذ تدوينها، أي منذ عصر التدوين ذاته"

 

وإلى جانب عابد الجابري نجد الدكتور طه عبد الرحمن يعتبر اللغة محدد أساسي من محددات ما يسميه بالمجال التداولي والذي يعتبره طه شرط حصول الإبداع والتخلص من الإتباع وهو "مقام التواصل والتفاعل بين أفراد المجتمع باعتبارهم صانعين لتراث مخصوص، وأن هذا المقام يقتضي أصولا ثلاثة هي العقيدة واللغة والمعرفة " فاللغة إذن أحد أهم مكونات هويات الشعوب.

ما يعنينا هنا في إثبات حقيقة التداخل بين اللغة والتاريخ والثقافة وكل المكونات التي ينتمي إليها الشخص هو توضيح مدى خطورة توظيف لغة أجنبية محل لغة أصلية حيث تتصادم القيم بعضها ببعض بل تتسبب في مزيد من التخلف والرجعية، فاكتساب لغة جديدة لغة تحمل في ثناياها ثقافة مختلفة وتنتمي إلى حضارة لها مرجعياتها وقيمها الخاصة بها دون غيرها من الأمم والحضارات وجعلها مكان اللغة الأصل أو على الأقل اللغة التي ورثها القوم لزمن طويل وتناقلتها أجيالهم وتمثلت قيمها، يسهم إلى حد كبير في تمديد عمر التخلف الحضاري والتبعية للأخر في كل حركاته وسكناته سواء أصاب أو أخطأ، فيما يقرره من أنماط عيش ويمارسه من ممارسات الحياة، فتكون التبعية تبعية عمياء حيث لا تساءل العقل والمنطق فاللغة عامل من عوامل النهوض الحضاري متى ما تم الاعتناء بها وحسن توظيفها، فموتها يعني موت مجموعة قيم ومعارف وثرات.

إذا كان الاستعمار السابق كان عسكري فرض بالقوة فإن الاستعمار الجديد استعمار ثقافي يفرض بالإرادة لا بالقوة
إذا كان الاستعمار السابق كان عسكري فرض بالقوة فإن الاستعمار الجديد استعمار ثقافي يفرض بالإرادة لا بالقوة
 
اللغة بين الانفتاح الحضاري والاستيلاب الثقافي:

العصر الذي نعيشه عصر يفرض على المجتمعات الإنسانية على اختلاف ألسنتها وثقافاتها، التواصل، بل التعايش ذلك أنه قد أصبح من الصعب القول بالهوية الواحدة، في مقابل المتعددة، بعد قد ارتفع المحدد الجغرافي عن رسم حدود اللغات والثقافات، فأصبحنا نعيش نمط القرية الواحدة، فحجم التداخل الثقافي الذي تسببت فيه من جهة، عوامل الهجرات المختلفة العاملة والعالمة، التي أدت إليها الكلونيالية ومراحل الاستعمار وضعف البنيات الأساسية للأوطان الضعيفة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا خصوصا بعد التقسيم الذي نتج عن الحربين العالميتين الأولى والثانية ومن جهة أخرى أدى التطور التكنولوجي والرقمنة إلى جعل العالم الشاسع جغرافيا متداخل ثقافيا وفكريا، حيث وسائل التواصل تعجل بنقل المعلومات من بلد لأخر متجاوزة القدرات البنيوية لذلك البلد وثقافته ولغته.

في واقع كهذا يصبح الحديث عن الاقتصار على لغة واحدة في التواصل أمر صعب، خصوصا من جانب المتواصل العربي لعدة أسباب، بل لا بد من التمكن من لغة أخرى من اللغات الحاملة للمعرفة الجديدة التي تقود العالم حاليا، كاللغة الإنجليزية الآن التي أصبحت تكتسح العالم بشكل كبير بل أصبحت شرط أساسي لمسايرة التقدم المعرفي والفلسفي العالمي خصوصا في مجالات البحث التخصصي حيث لا سبيل للإدراك المقالات المستجدة إلا بإدراك لغاتها.

لكن هناك فرق بين تبني مقاربة تحقيق الكفايات اللغوية لأجل ترشيد عمليات الانفتاح على الآخر مسيرة التطور المعرفي، وبين تبني اللغة الأجنبية في مجالات التربية والتعليم والتحديث الإداري الوطني الذي يعتبر المساس به مساس بالوطنية ويؤدي إلى استيلاب فكري ممنهج وإرادي، فإذا كان الاستعمار السابق كان عسكري فرض بالقوة فإن الاستعمار الجديد استعمار ثقافي يفرض بالإرادة لا بالقوة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.