شعار قسم مدونات

خاويةٌ على جماجِمِها

blogs وشوشة

كُلَّما طوَّقني الدهرُ بالنسيانِ، وحاصرتني أيامُهُ بالتبديل والتحويل، وأزمع الماضي على تسيَّيجي بالتثريب، ألفيتُ في نفسي جَنوحاً كُلّياً نحو تمزيع صُفُدُ الانقياد لسلطان القطيع، والقعود الاستسلامي انتظارا لحوز رضا الغير، والأكثر من كُلِ شيءٍ هدم صروح المُتبجِّحين المُخالِفة لحريتي الأنانية وعبثي الشخصي الغارِقُ في عالمِ الأفكار، والمتأفِفُ اعتزالا للماديات التي تسوَّلت اتفاق الجموع حتى أضحت أعرافاً مُلزِمةً تُعاقب المُلبِّدين خارج صفو سقفها الصغير الذي تساقط دِهانه وغطَّاهُ التراب.

كُلَّنا بلا تخصيص وبأسفٍ شديد يعرِفُ مُقتحِمَاً لخُلوتِه، أو يُخالِطُ هادماً لعُزلتهِ، يتسلل عُنوةً إلى دماغك، أو يُسلِّط حُكمه القاصر على سلوكياتك، أو يُعيِّبَك ببصرهِ الحاسر بضلال الغاية، ويصِمُكَ بالعَماية، فلا يُقيمُ لمعارفِك وزناً وفي غير ما تأخير تضطلِع جنابُ عنايتهِ بإقامة أودك وإصلاح أمورك الموائِل. من منا لم ينصرف توفيقه ويُلقيه عانياً بين يدي "حِشريٍ" مُتجنّنٍ من أصحاب القلوب الواجِفة، والأدمغة المُعطَّلة، والغرور العتيد!

لسوء حظنا لم تكتفِ "الحِشرية" كما نسميها في مصر بدسِّ الأنوف الصفيقة في سلوكيات الأغيار، بل تعدتها للتدَخُّلِ الصريح في مُعتقداتهم، وسائر منابع استقائهم للأفكار (مثل القراءات)، ويا لسعدِنا على عُنفٍ ورعونةٍ يمُازجانها لتكتمل بذلك الخلطة السحرية لكُل جلاَّدٍ للتعقُّلِ الرزين، يهجرُ إصلاحَ ذات بينهِ ويوَجِّهُ اتهاماته والزاماته للجميع كراعٍ مُتسلِّمٍ بالسليقة للقياد أو عرَّابٍ قديم خرج هاتفاً بسطوةٍ وهدوء من ثنايا خيالٍ سينمائيٍ بديع تَحفُّهُ أبهةُ ثلاثيةٍ فنيّةٍ ثمينةٍ أبهرت كوكبةُ النُظَّار.

أرسى عُلماء النفس قاعدة مفادُها أن الإنسان يخاف كُل ما يجهله، وعليه يشرعُ البعض كافة ما يقبع ضمن أُطُر معيَّتهم الضيقة باعتباره عِلماً لا يجوز الجهل به

يتسم "الحِشريون" بغِلاظةٍ وفظاظة، وينتفخون زهواً بالادعاء، وترتسم عليهم أي الهيام بالذات، ويُترجَم احتقار الآخرين في أفعالهم صُراحاً، وفي هذه النِقاط عِللٌ فاصلةٌ تُفرِّقُ ضِعتهم عن سمو إخلاص الناصحين، والدُعاة، والمُصلحين. يشيعُ ظهور نوعان من أشياع "الحِشريين" على الساحة العلمية، يتقاسمون مُضايقتك باتفاق غيّبي، تتوارى بنودهُ عن صلافتهم المُتطاوِلة.

النوع الأول – جهلٌ لا ينفع وعِلمٌ يضر:

أرسى عُلماء النفس قاعدة مفادُها أن الإنسان يخاف كُل ما يجهله، وعليه يشرعُ المُنتمون لهذا النوع في تصنيف كافة ما يقبع ضمن أُطُر معيَّتهم الضيقة باعتباره عِلماً لا يجوز الجهل به دونما استناد لمعايير مُحددة تؤيد هذا التعريف، ومن ناحيةٍ مُعاكسة يُبدون صداً قاطِعاً، ويُظهرون كُفراناً مبيناً تجاه ما يتسامى على إدراكهم الضحل أن يهضِمَهُ انطلاقا من كونه معرفةً ضارة فيتلافونهُ مثلما تحاشت السُلحفاة التي قصَّ أخبارها دِمنة صمتاً كان ليُجنِّبها هلاكاً محتوما.

النوع الثاني – مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ:

ليس أبلغ من وصف الله لفِرعون الذي ضَمِنتهُ سورة غافر من القرآن المجيد، أستعِن بهِ هُنا لوصف هذا النوعُ المسعور تعالُماً، والمُغرم ببسط ظِلاله على جُمهرة المُجتهدين، آملاً في انصياعهم للآليء حِكمتهِ، وهنا تُقاس العقلانية عينها بمُضاهاتها للهذيان المُنمَّق، والخارج انسيابا من بين شفتيَّ المُختال الآفَّاك، وتُعدُّ مُتخالِفات كُل حائدٍ عن أسراب مُقررات العلاَّمة النحرير الخبير المشهود لها منه بالصحةِ وحُسن التقدير، ضروباً من الخرف ،لأن أدعياء الدِرايةِ هؤلاء لا يتصورون ببساطة أن مدينة العلم رُبما منحت مفاتحها لغيرهم في الواقع .

يُشارِكُ هذا النوعُ نركسوس الصيَّاد شغفهُ الآخاذ دوماً في خلق انعكاسات لصورته الكامِلَةُ توهُّمَاً ولكنن ليس على جدول الماء هذه المرة بل في نفوسٍ مُتناثرة يحدُّها نُقصانٌ بشريٌ وعوار. بحيث لا يكتسب أي معلومٍ جودة إلا إذا كان بطريقهم ومن خلالهم، ولا يحوز كل سعي معرفي الاحترام المُستحق له سوى بصرفهِ في الميادين المُستساغة طِبقاً لأهواء نُخبةُ الزيفِ المُتصنِّعَةُ تلك.

من تمام الخِفة حُسبان امتلاك الحقائق استنادا على نظرة فردية للأمور، أو حتى نظرية جماعية مهما تعاظم قدر الجماعة واتسعت مقدرتها
من تمام الخِفة حُسبان امتلاك الحقائق استنادا على نظرة فردية للأمور، أو حتى نظرية جماعية مهما تعاظم قدر الجماعة واتسعت مقدرتها
 

مثل حالنا مع هذين النوعين كمثلِ ثيسيوس اليوناني الذكيِّ الأريب الذي فَطِنت رزانته لما تُبطنه ميديا من فساد الطوية، وخراب الشمائل ولا سيما عند إلحاحِها عليه بشرب السم والمُنتمون لهذان النوعان أيضاً كالساحرة الطالحة يُروِّجون سماً لكنهُ من نوعٍ آخر لا يقتل بل يسلب من الإدراك تمدُّده، ويطفئ للبصيرة استضاءتها التي تكفلها زيادة المعارف ونبذ الكبرياء في التعامل مع العلوم والحقائق.

أما بالنسبةِ للترياق المُعين على تفادي سلبيات هَؤُلاء التي يبثونها ليل نهار، وجب للفردِ أن يتعامُل كالنبهان اليقظ الذي يتَّقي ساقطاً التهمته حفرة في الطريق فيخطو حواليهما، يغمرهُ آملٌ في رتق جُرح صاحِبهِ وبلوغ المُساعدين أو كالمارُ من السابلةِ على أدمِغَةٍ وهي خاويةٌ على جماجِمِها يقول أنى يُصلح الله هذه بعد عطبها.

خِتاماً، فإنه من تمام الخِفة حُسبان امتلاك الحقائق استنادا على نظرة فردية للأمور، أو حتى نظرية جماعية مهما تعاظم قدر الجماعة (دينية / سياسية/اجتماعية) واتسعت مقدرتها (من عدد أعضاء/ موارد مالية/سلطان أو نفوذ) ناهيكم طبعاً عن الزعم الكاذب باحتكارها فالحقائقُ مُتعددةٌ باختلاف البشر، وكثرة الثقافات. يلزم لاستيعابها أن يتحلَّى الفرد بسعةِ الصدر، ورحابةِ الأفق، وأن يمتلك استعدادا مسبوقاً للاستماع والمناقشة، فالحقُ مقامٌ محرود يمنع بلوغَهُ الثخانةُ والجمود.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.