شعار قسم مدونات

مشروعُ نهضة..

BLOGS مشروع نهضة

هل يحتاجُ الإنسان العربي إلى مشروع نهضة؟ السؤالُ الذي يُحيّرنا ويُوقظ مضاجعنا ويجعلنا في نوبةٍ من الانتظار والأمل لا تنتهي، متى سيعيش الإنسان العربي عصر نهضة حقيقية؟ متى سنتيقّنُ تماماً نحن العرب أنّنا في طريقنا نحو بناء نهضة اجتماعية واقتصادية شاملة تُدوَّن في سجل التاريخ إلى جانب النهضات الأخرى التي عرفتها الإنسانية؟ إننا نعيش في عالم مخيفٍ يطغى عليه التغيير والتطوير، ينتقلُ فيه الإنسان من وضعية إلى أخرى بوتيرةٍ متسارعة، وهذا ما يجعلنا في تحدٍّ كبير إن نحن قرّرنا مجابهة هذا الواقع واتّخاذ قرار ببناء حضارة عربية مُنافسة بكل المقاييس.

إن النهضة الإنسانية بكل تجلّياتها لا تنبثقُ إلى الوجود إلا بعد أن يُعاني الإنسان قبلها بفترات عصيبة، وكوارث كبيرة، تؤدي إلى تغييرٍ ملموسٍ في بنية المجتمع وركائزه، فمرض الطاعون الذي اجتاح أوربا في القرن 14 حصدَ أرواح الملايين من البشر، أعقبته بعد ذلك حضارة متقدمة، وبعد الحرب العالمية الثانية التي قضى فيها ما يزيد عن خمسين مليون شخص، ودُمّرت فيها الملايين من المنازل والمنشآت كانت بمثابة صعقةٍ كهربائية أعادت سكّة الإنسانية إلى الاتجاه الصحيح، فحقّق العالمُ بعد حربٍ طاحنة قفزةً جريئة من التقدّم العلمي والتكنولوجي ما نَعيش اليوم انعكاساته بحذافيرها.

 

أعتقد أن نجاح وتفوق المجتمعات الغربية في تأسيسِ صرحٍ عتيدٍ لنهضة علمية وأدبية، كان بمثابة ردّ فعل حاسم ومصيري بعدما عانته من حروبٍ ومآسي فعلت بهم ما فعلته من قتلٍ وتشريد، فاقتنعتْ إلى حد بعيد بأنَّ الإنسان هو نفسه من يملك مفاتيح النجاح والبناء، وهو نفسه أيضا من يتحكم في آليات الفشل والتهديم، وبالتالي فإن أيّ تطلع جاد لمستقبلٍ مزهر وعهدٍ مشرق لن يمرّ إلا من عتبة الإنسان، ذاك المخلوق العجيب، فما كان عليها إلا أن تُعيد بناء الإنسان الأوروبي مثلما تعيد تشييد وتخطيط أيّ مشروع آخر.

 

وهذا بالضبط ما نفتقده في منظومتنا العربية التي لم تتفطّن بعد إلى أن الإشكال الجوهري يعود في نهاية الأمر إلى أفرادها، وأنّ كل هذه الكوارث الإنسانية التي نُعانيها على امتداد الوطن العربي كاملاً تقريبا وهذا التّقتيل وهذه الصراعات البَيْنية وغياب الآفاق كليا ليس إلا تحصيلاً حاصلاً لفشلٍ ذريع في تأسيس مشروعٍ إنساني يجعل من الإنسان نفسه أسمى أهدافه، وفي الوقت الذي تعيش فيه أوروبا اليوم عهداً من الوحدة والأمن والسلم الاجتماعي بين شعوبها بعد أن نجحت في تخطّي مخلفات وعقبات الحرب العالمية، تتعدّد في المقابل بُؤر التوتر العربية، فلا نَسلم من الاحتلال والتقسيم والتناحر بكل أشكاله.

عصر النهضة يحتاج قيامه إلى رجالٍ عظماء مميّزين، إلى فنانين وأدباء وعلماء وعمّال، أيْ إلى عنصرٍ بشري مؤهل تتوفر فيه كل مواصفات المسؤولية

إن العديد من الدول العربية لها فائضٌ كبير في الأموال والثروات، لكنّها وللأسف ما تزال تقبعُ في خانة الدول المتخلفة، أو على سبيل التلطيف دعنا نقول في مصفّ الدول السائرة في طريق النمو، وهذا الزحف البطيء لن يصل بنا إلى برّ الأمان كما يبدو ما دامت السياسات المتّبعة لا ترقى إلى درجةِ النضج الإنساني المنشود، هذه الأموال والثروات الضخمة لا تُستثمر سوى في شراءِ اليخوت باهظة الثمن، وبناء الأبراج الشاهقة، وتقديم الهدايا والعطايا السخيّة دونما سببٍ أو داع، وإبرام الصفقات المشبوهة والإنفاق على التسلّح والترف بكل أصنافه وأوجهه، في حين أنه لو تمَّ استثمارها بشكلٍ عقلاني بما يعود بالنفع على الإنسان العربي -ولو على المدى البعيد- لتغيّر شكل المنطقة برمّتها، ولأعيد ترتيب التوازنات في المنطقة على جميع الأصعدة.

 

فالمال في عصر النهضة الأوروبية شكّل إلى جانب الفن لبنة أساسية ودافعاً قوياً للتقدم، ولا ريب أن تربية النشء المثقف الواعي بتحديات المرحلة يحتاج إلى قاعدة مادية متينة، وهذا ما نتوفّر عليه في دولنا العربية بالنظر إلى ما تزخر به من مُقدرات طبيعية مهمة في وقتٍ أصبح العالم يُعاني فيه من تقلبات مناخية مؤثرة بشكلٍ كبير على مستقبل ساكنيه.

أعتقد أن الميزانيات الضخمة التي تُهدر اليوم في مشاريع عملاقة دون أن يسبق الانجاز دراساتٍ مستفيضة معمّقة حول مدى جدواها واحتياجنا لها، أو بالأحرى إعطاء الأولوية إلى جوانب أحقّ بالسبق والاهتمام، هو بمثابة هدرٍ لوقتٍ ثمينٍ نحن في أمس الحاجة إليه، أو هو في حقيقة الأمر بمثابة إفراغٍ للماء على الرمل وانتظارِ تشكل بُقعٍ أو بحيراتٍ مائية، وهذا لن يتحقّق أبداً مهما طال الزمن، وبالتالي فإن النتائج المنتظرة من هكذا مشاريع لن تُؤت أكلها أو تُبرز نتائجها لأنها وببساطة أهملتْ العنصر الأساسي والمهم في المعادلة ألا وهو الإنسان.

إن عصر النهضة يحتاج قيامه إلى رجالٍ عظماء مميّزين، إلى فنانين وأدباء وعلماء وعمّال، أيْ إلى عنصرٍ بشري مؤهل تتوفر فيه كل مواصفات المسؤولية، ولنا في عصر النهضة الأوروبي في القرن الخامس عشر خير عبرةٍ وأعمق مثال، فلولا ليوناردو دافنشي وساندرو بوتيتشيلي وميكيلانجيلو وغيرهم لما رأتْ النهضة الأوروبية النور، وهذا يُعتبر في حدّ ذاته -أي العنصر البشري- التحدي الأكبر في وجه النهضة العربية الشاملة.

هذه المقدمات تدفعنا إلى التقرب من جوهر الإشكالات الحقيقية التي تعاني منها الدول العربية فتقف سدّاً منيعاً أمام أي تقدم مرغوب فيه، ومحاولة لملمتها بعد فهمها وتحليلها من زوايا مختلفة يتطلب منا التعمّق أكثر في عدة نقاط تخص بالتحديد الإرادة الجادة والنية الصادقة في التغيير والطموح إلى الأفضل، ثم الوعي بالإشكالات القائمة، ثم التركيز على العنصر البشري فبِيئته، ثم الموجودات المحيطة به والمؤثرة عليه كالإعلام والسياسية والاقتصاد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.