شعار قسم مدونات

في بيتي ملاك

blogs متلازمة داون

نعم أنا المحظوظة، وكيف لا أكون وقد سكن منزلي ملاك في هيئة بشر. لا أنكر أن الغالبية الساحقة سيعتبرونه ابتلاء من عند الله عز وجل بل ويمكن أن يكون كذلك فعلا؛ لكن ما أضفاه هذا الصغير البريء على منزلنا لم يكن في الحسبان. هو كالنسمة، التي إذا لامستك أنعشت روحك، وكالبلسم الذي إذا وُضع على الجرح طِبتَ وعُفِيت. هذا الملاك البشري المحبوب، الذي كلما صادفه شخص أحَبهُ وتعلق به وأصبَح دائم السؤال عنه؛ فكيف بنا نحن أسرته الصغيرة؟ فقد تعلقنا به تعلقاً جماً فاق الوصف. لعله ملَئ منزلنا دفئاً وحناناً بضحكاته المبهجة، بروحه النقية الطاهرة، بأسئلته وكلماته البريئة البسيطة والتي لها وقع كبير على أنفسنا.

عندما أدخل باب منزلنا يكون دائما أول من أتفقد وجوده، ولا يهدئ لي بال إلا عندما أجده في مكانه المعتاد جالسا يلعب بلوحته الإلكترونية أو يحضر أحد مسلسلاته الكرتونية المفضلة؛ فاَخُدُ منه جرعة الحنان اليومية التي ألفتها، تلك الأحضان الدافئة والطبطبات الحنونة والقبلات المحبة التي عندما نتبادلها، تكون كافية لأن تزيح عني كل التعب والهم. أذكر أيضا الشعور الذي ينتابني عندما لا أجده أو عندما يكون على سفر، وكأن البيت فقد روحه وبهجة ألوانه، وحل على أرجائه صمت غريب. نعم لقد أصبح هو روح المنزل وجوهره، هو صانع البهجة ومنبع الطمأنينة والسكينة.

في الصباح الباكر غالبا ما يَكُون أول المستيقظين، يأتي لتفقدني في غرفتي ويغرقني بقبلاته الصباحية ولمساته الدافئة على جبيني، وكأنه يقول لي استيقظي لقد اشتقت إليك؛ فإذا راَني غارقة في نومي رجع أدراجه وأغلق علي باب الغرفة بكل هدوء كيلا يشعرني بأي ضجيج. عندما يحضر الطعام، يقوم بمناداة كل فرد من الأسرة بإلحاح لنجتمع على المائدة، يساعد أحيانا في ترتيب الصحون بكل حب ويوزع كسرات الخبز علينا وهو يدعونا لمباشرة الأكل.

إنهم لا يحقدون، لا يكنون لك كرها، لا يحسدون ولا ينتقمون. إنهم أطفال متلازمة داون، إنه أخي وما أروعه من أخ. مَلَك َقلوبَنا، سَكَنَ روحنا وعَلَّقَنا به وبوجوده معنا

مرة قلت له "أحبك"، لم أعلم حينها إن كان قد فهم قصدي واستوعب ما أكنه له من خلال هذه الكلمة البسيطة، مسكت يديه الصغيرتين ونظرت إلى عينيه البريئتين وقلتها ثانية – أحبك – مسحت على رأسه وغمرته إلي، أحسست حينها كما لو أنه فهمني، أو لعله شعر بمعنى تلك الكلمة وبعمقها، فابتسم وقبلني ثم مشي. مرت الأيام، حينها كنت أجالسه وألاعبه، أعطيته قطعة شكولاتة، سر بها وابتسم لي ثم قال: أحبك، قالها بحروف مبعثرة قليلا لكنه قالها في الأخير ونطق بها كما لو أنه واع بمعناها. أسعدني سعادة تفوق الوصف، صار دائما يرددها وكأنه فهم أن كلمة حب هي تعبير عن الشعور العميق بالمودة تجاه الأخرين، عن الفرح أو عن الامتنان مثلا، عن الشكر أوعن المواساة أحيانا.

 

أضحى يقولها كلما شعر أنه بحاجة لقولها أو تعبيراُ منه عما يجول بخاطره عندما تخونه الكلمات. فعلا، الحب لا يحتاج منا لشرح مفصل لنفهمه، أو لقدرات خارقة لنستوعبه، الحب يختزل الكلمات، يتخطى التعابير، يحتاج منا فقط لنظرة في العين، للمسة في اليد، لمسحة في الجبين ولصدق عميق في المشاعر؛ فيصل لمتلقيه قاصداً عنوانه من دون استئذان. عندما يمرض أحدنا يتأثر بشدة، يجلس لمواساته بحنان ورقة، يُقبله ويطبطب على محياه ويحضنه، وإذا راَه يبكي تدمع عيناه لبكائه. نقاء روحه فريد من نوعه، وكأنه جمع كل حنان الدنيا وطيبتها في قلبه. مهما كبر ظل ذلك الطفل الصغير في أعيننا. فعلا فمثله لا يكبرون أبداً ولو أصبحوا شيوخاً، يكبر جسدهم نعم لكن روحهم تظل بريئة وصغيرة صغَر الأطفال.

إنهم لا يحقدون، لا يكنون لك كرها، لا يحسدون ولا ينتقمون. إنهم أطفال متلازمة داون، إنه أخي وما أروعه من أخ. مَلَك َقلوبَنا، سَكَنَ روحنا وعَلَّقَنا به وبوجوده معنا. أكاد أن أجزم أنني تعلقت به تعلقاً جماً ولا أتصور معنى للحياة من دونه. وأكاد أن أجزم أيضا أن الكثيرين لا يعرفون هذا الجانب الودود والملائكي الذي يمتلكه هؤلاء الأطفال، خصوصا وإن أُحيطوا بجو أسري ملئ بالحب والاحتضان والصبر. أحبوهم، احتضنوهم، علموهم بحب وصبر، فو الله المحبة تصنع الكثير. وأما عنك يا أخي، يا صغيري الحبيب الغالي دمت لنا روحا تحيي أنفسنا ومطرا يروينا سعادة وبهجة، دمت لنا غاليا عزيزا. حفضك المولى وحماك من كل سوء يؤذيك وهم يضنيك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.