شعار قسم مدونات

هل المال حقا سبب لتقدم الشعوب ورقيها؟

مدونات - المال

أثير اليوم موضوع نقاش بيني وبين زملاء وزميلات لي في العمل حول سبب تخلف الشعوب وانعدام وعيها، فقالت إحداهن أن الفقر هو سبب كل المشاكل الحاصلة، فهو الذي يولد الجرائم والحقد المجتمعي ويدفع الناس إلى الكراهية والسخط على البلد وأحولها، وأضافت معللة موقفها أنه بمجرد أن تمنح أحدهم مقدارا من المال فإنه يتغير للأفضل ويصبح سعيدا وتتغير طباعه ونفسيته للأحسن ثم يملأ وقته بكل ما هو مفيد وينسى الحقد والكراهية التي كان يحس بها تجاه مجتمعه أو تجاه الأغنياء، ويمحي جميع الأفكار السوداوية أو الإجرامية التي فكر فيها وهو في قمة تعاسته.

  

في الحقيقة لم أكن جد مقتنعة بوجهة نظرها، كيف يعقل أن يكون حل كل مشاكل المجتمع يقتصر فقط على المال والغنى؟ أعلم أن المال هو سبب من أسباب السعادة لكن هو ليس حلا لجميع المشاكل، إنما هو فقط حل جزئي. واجهت زميلتي وطرحت لها سؤالا مفاده: هل كل من ترينه ميسور الحال أو غنيا يكون شخصا صالحا؟ في الحقيقة لا، لقد شهدت على العديد من الشباب من جيلي والذين كانوا منحدرين من عائلات ميسورة الحال لا ينقصهم أي شيء لكن حياتهم في الواقع ليس فيها أي صالح يذكر. يدرسون في أحسن المدارس، يلبسون من أغلى الماركات، يقتنون أرفع أنواع السيارات، يعيشون في أرقى الأحياء وما إلى ذلك من مظاهر العيش الرغيد، وفي المقابل تجدهم ضائعين بين الملاهي الليلية والسكر والمخدرات ناهيك عن الدراسة التي لا تجد لها مكانا في جدول أعمالهم، ثم مستواهم الفكري المتدني وسوء الأخلاق وانعدام الاحترام. طبعا أنا لا أعمم، ليس الجميع بهذه الصورة ولكنني فقط أوضح فكرة أن اكتساب المال والظفر بعيش كريم ليس شرطا لصنع شخص صالح محترم ينفع نفسه ومجتمعه.

 

سبب تقدم الشعوب ورقيها هو في بادئ الأمر راجع إلى التربية والتعليم والوعي والأخلاق ثم بالموازاة مع المال وذلك بتوفير الحاجيات الضرورية للمجتمع من مرافق وبنيات تحتية وأجور منصفة وحقوق ممنوحة

كانت زميلتي ما زالت متشبثة برأيها، فقلت لها أن أول ما يجب إصلاحه في الدولة هو التربية والتعليم، لأنها أساس كل شيء واللبنة الرئيسية لتنشئة وتكوين طفل قادر على أن يصبح في المستقبل فردا صالحا له مبادئه الراسخة وشخصيته الصلبة المستقيمة، ثم بعد ذلك نستطيع الانتقال إلى كل ما هو مادي فنضمن بذلك أنه عند حصوله على المال وسيوظفه في مكانه الصحيح.

  

لماذا في نظرك أن هناك أطفال بالرغم من أنهم سجلوا في أحسن المدارس الخصوصية لكنهم مع ذلك لا يدرسون ولا يتفوقون، ثم لماذا يعامل الأطفال في المدارس الحكومية تعاملا فظا من طرف بعض المعلمين؟ ألا يدل هذا عن قلة وعي وسوء منهجية؟ أيعقل أن المدرس والذي كاد أن يكون رسولا أن نرى منه مثل هذه السلوكيات تجاه تلاميذه؟ يتبنى بعضهم أسلوب الضرب والترهيب أحيانا أو يتلفظ بكلمات وعبارات لا ترقى لمهنته الشريفة والمفروض أنه بها يكون قدوة لطلابه. فأجابتني زميلتي أتعلمين ما السبب؟ السبب هو سخط المعلمين من الأوضاع المزرية التي يعاني منها قطاع التعليم بما فيها الأجور المتدنية والحقوق الضائعة. واستأنفت، ألا تعلمين سبب التعامل الجيد للتلاميذ من طرف المعلمين في الدول المتقدمة كأروبا وأمريكا؟ السبب هو أن المعلم هناك يتمتع بكل حقوقه المادية والمعنوية، أجرته تضاهي بكثير أجرة نظيره في بلدنا. أليس إذن السبب هو المال؟ ألا ترين مدى أهميته كعنصر أول وأساسي لحل المشاكل؟

   
undefined

 

ثم أضافت: الفقر هو سبب الجهل. العديد من الأطفال في القرى والمناطق النائية لا يستطيعون الولوج إلى مدارسهم بسبب انعدام وسائل المواصلات وصعوبة الطريق الناتجة عن البنيات التحتية الهشة، والتي يفتك بها وبكل سهولة سيل غزير من الأمطار أو تساقطات ثلجية كثيفة. هؤلاء الأطفال لا يستطيعون إتمام دراستهم في ظروفهم تلك، وحتى وإن فكروا أن يرتحلوا إلى المدن كيف سيوفرون مصروف السكن والكتب والأكل هناك؟ أرأيت، الفقر يساهم في تفشي الأمية أيضا، وكما قلت سابقا فهو بالتالي يملأ قلب الإنسان بالضغينة والكره نتيجة احساسه بالحاجة والضعف. إن شعور الإنسان بالاستقرار المادي عامل من عوامل الراحة النفسية والاتزان الفكري، هذا الاتزان هو الذي يزيح الغل والحقد من النفس ويجعل الإنسان مؤهلا أكثر ليكون فردا صالحا في المجتمع.

  
الصراحة، كان لديها جانب من الصواب فيما قالته، لكنني بالرغم من هذا لا زلت مقتنعة أن حلقة ما أهم لا زالت مفقودة، هذه الحلقة هي التربية والوعي كما ذكرت سابقا. المال في الحقيقة ليس شرطا كافيا، كم من أناس ملكوا القناطير المقنطرة من الأموال وكانوا مفسدين في الأرض. لنفترض مثلا أن المدارس جهزت بأحسن ما يمكن، الرواتب علت، الحقوق منحت وتم تخصيص ميزانية كافية لتغطية جميع حاجيات المجتمع. فلماذا يا ترى لا زلنا نشهد على الاختلاسات التي تحصل في أموال بعض المشاريع مثلا؟ أو الغش في بناء عمارة أو قنطرة أو قنوات تصريف، أو عند افتتاح حديقة عمومية مثلا، تجدها في البداية مخضرة نظرة تملأها الغرسات والورود والمرافق الترفيهية، ولا يكاد يمر شهر حتى تراها وكأنما فتك بها سرب من الجراد، كل الزهور مقتلعة، مرافق الترفيه مكسرة، النفايات منتشرة في كل مكان بالرغم من وجود حاويات القمامة عند كل ممر، وما إلى ذلك من أمثلة أخرى.. أليس هذا مرتبطا بالخلق والتربية والوعي؟ أليس الاستعمال الرشيد للأموال مرتبط بطبيعة اليد التي ستمتلكها وتصرفها؟ وأيضا بطبيعة من سيستفيد من خيرات مكاسبها؟

 
بالنسبة لي، الخلاصة من كل هذا النقاش والجواب على السؤال الذي طرحته في عنوان المقال؛ أن سبب تقدم الشعوب ورقيها هو في بادئ الأمر راجع إلى التربية والتعليم والوعي والأخلاق ثم بالموازاة مع المال وذلك بتوفير الحاجيات الضرورية للمجتمع من مرافق وبنيات تحتية وأجور منصفة وحقوق ممنوحة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.