شعار قسم مدونات

محمد صلاح.. والطريق إلى العالمية

blogs محمد صلاح

مَن كان يتوقع أنّ ذلك الشاب في السابعة عشرة مِن عُمره من قرية "نجريج" التابِعة لمدينة "بسيون" في مُحافظة "الغربيّة" المِصريّة والذي لم يتمكن مِن استكمال دراسته في إحدى الجامعات الكُبرى نظراً لظروفه الماديّة الصعبة، سيكون بعد أقل مِن عشرة أعوام فقط في قلب "الأنفيلد" ملعب نادي ليفربول الإنجليزي، يصرخ باسمه أكثر من 45 ألف مُشجع بصوت واحد ولكنة ثقيلة بريطانية يُنافس أعظم أساطير كُرة القدم كالأرجنتيني ليونيل ميسي والبُرتغالي كريستيانو رونالدو وغيرهم على لقب الحذاء الذهبي لأفضل هدّاف في الدوريات الخمس الكبرى.

هذا الموضوع ليس رياضياً مُطلقاً وإن كان كُلّ ما فيه يُشير إلى الساحرة المُستديرة، نتحدث هُنا عن رمز عربيّ مِصريّ رائع جاء ليروي عَطشنا بعد سنين قحط عِجاف من قدوات المواهب الحقيقة المُحفزة للنفس على المستوى العالميّ، فقد سئمنا من أمثلة الشباب الغربيّ الذي حقق مَجداً في سنوات معدودة، والأحرى بِنا أنّ نُسلّط الضوء على نماذجنا التي توهجت وزاحمت العظماء باقتدار.

الشاب المصريّ البسيط – بشهادة كافة المحيطين به – ولد في 15/6/1992 لعائلة مصرية اعتيادية، أو رُبّما لم تكن كذلك يكفي أنّها ساندته في سَعيه خلف شغف المُستديرة، التي بدأت قصته معها في نادي المقاولون العرب، حيث كُشِف السِتار عن موهبة صلاح لتكون الخطوة الأولى في طريق الألف ميل.

يجلس الشاب المِصري حبيساً لدكّة البُدلاء ومُتابعو كرة القدم يعلمون أنّ الدكّة هي أسوأ مخاوف اللاعبين، فهي مكان مُمتاز لتسلل الريبة والشكّ في ذات اللاعب وقُدراته

25/12/2010 الهدف الأول لصلاح في عالم المُستديرة، و25/3/2018 ذات اللاعب هو هداف الدوري الإنجليزي أقوى دوريات العالم كُروياً. كم تبدو هذه الجملة سهلة وبسيطة، وكم اختزنت تلك السنوات الثمانِ عَملاً مُتفانياً وتدريباً وجُهداً واجتهاداً، كم عانى فيها من الانكسار والانتصار، والإخفاق الممزوج بالطموح الذي لا يلين ولا ينطفئ.

تذكُر بعض المصادر أنّ نادي الزمالك رفض التعاقد مع صلاح في بداية مسيرته نظراً "لصغر سنه وقلة الخبرة" فاقتنصه نادي بازل السويسري بمليوني يورو حيث بدأ التوهج هناك مُحققاً ما حققه – ولسنا بصدد الحديث عن أرقامه وإنجازاته، لن يُسعفنا المقال لذكرها – وهنا تظهر قيمة الصبر والاجتهاد والإيمان بالعِوض الإلهيّ الذي فاق توقعات صلاح حتماً.

ومن بوابة بازل بدأت موهبة صلاح العالميّة بجذب الأنظار إليه وتحديداً أنظار جُوزيه مورينو فاستقطبه لصفوف البلوز وهذا التحدي لم يكن سهلاً، فإن كان الوصول الى نادي تشيلسي صعباً، فإثبات الذات هُناك أصعب وبهذا وصل صلاح لمحطة الإختبار الأصعب في مسيرته.

يجلس الشاب المِصري حبيساً لدكّة البُدلاء ومُتابعو كرة القدم يعلمون أنّ الدكّة هي أسوأ مخاوف اللاعبين، فهي مكان مُمتاز لتسلل الريبة والشكّ في ذات اللاعب وقُدراته واستحقاقه لمكان أساسيّ في التشكيل، فنفس الدكة والمدرب قتلا اللاعب الوحيد الذي نافس رونالدو وميسي على الكرة الذهبية وفاز بها وحصل هذا عندما كان مورينيو مُدرباً لريال مدريد وكان الضحية هو الغزال ريكاردو كاكا.

لم ينسَ صلاح مُنتخب بلاده، متدرجاً من فئة الشباب الى الأولمبي ومن ثم المنتخب الأول، مُسجلاً في كافة الفئات والبطولات
لم ينسَ صلاح مُنتخب بلاده، متدرجاً من فئة الشباب الى الأولمبي ومن ثم المنتخب الأول، مُسجلاً في كافة الفئات والبطولات

أمّا الفرعون المصري فحزم أمتعته وغادر بعد قُرابة العام فقط، تحديداً من 26/1/2014 الى 3/2/2015، ولا أظن أنّه كان قراراً سهلاً. توجه الى نادي فيورنتينا الإيطالي على سبيل الإعارة وهنا بدأ التحدي من جديد، إمّا أن يتوهج الفِرعون مرّة أُخرى ويُلقي تعويذته على أرض الملعب أو يُجهض حلم العرب بلاعب عالميّ المواصفات لطالما راهنوا عليه.

وكان صلاح على قدر التحدّي بَل وأكبر وبدأ يعود للتألق تدريجياً، مما دفع نادي ذئاب العاصمة روما للتعاقد معه مقابل 15 مليون يورو، وتجلى صلاح في تلك الفترة وأعيدت ولادته كروياً وعليكم بالاطلاع على أهدافه وإنجازاته وبطولاته في تلك الفترة مع روما.

وبعد كل هذا، حان وقت الحصاد، ولكل مجتهد نصيب، ونصيب صلاح 50 مليون يورو دُفعت في ذات الشاب الذي لم يجد مالاً ليتمّ دِراسته الجامعيّة، ليُصبح أغلى صفقة في تاريخ النادي وأغلى لاعب عربيّ، وينتقل بعدها الى إنجلترا حيث سيوضع له نُصب تذكاري إذا استمر في الأعاجيب الي يفعلها، فهذا موسمه الأول فقط وأثار ذهول الكوكب كامِلأ بمستواه الاستثنائي.

ولم ينسَ صلاح مُنتخب بلاده، متدرجاً من فئة الشباب الى الأولمبي ومن ثم المنتخب الأول، مُسجلاً في كافة الفئات والبطولات ولو لم يُسجل صلاح سِوا هدفا آخر مباريات تصفيات المونديال اللذان أهلا مُنتخب الفراعنة الى نهائيات كأس العالم بعد غياب 6 نسخ متتالية لكفاه ذلك.

ما يُهمنا في سيرته:
احذروا أن تقتلوا موهبة منحكم الله إياها وحذارِ من التفريط فيها، وجهوا بوصلتكم نحو الشغف دوماً، هناك ستجدون ذواتكم، أبصروا طريقكم جيداً، خذوا نفساً عميقاً وصوبوا نحو المرمى، الهدف آتٍ لا محالة

فقد صَبر صلاح على الطفولة الفقيرة والشباب المُتعثر فكان هذا دافعاً لتحسين واقعه وبحثه عَن الاستقرار- وهذا دفعه للزواج مُبكراً في عام 2013 – وكان نابعاً أيضاً من الإلتزام الدينيّ الذي يتّسم به صلاح خارج الملعب وداخله، ولرُبّما يكون غريباً تردُّد اسم الدين الإسلامي في أوساط مشجعي ليفربول نظراً لاحتفالية صلاح المتكررة بالسجود على أرض الملعب بعد التسجيل، وهذا الالتزام لا يخفى على أحد، لدرجة تيمنه بالبيت الحرام فسمى أولى بناته بـ "مكة"، وكانت هديته منذ أيام في عيد الأم، عمرة لأمّه زوجته وأمها.

واشتهر صلاح بمساهمته المُستمرّة في عمل الخير، وتحديداً التبرعات الماليّة كتبرعه بـ 8 ملايين جنيه لبناء المعهد الأزهري، والتبرع في المجالات الصحيّة كالحاضنات ووحدات التنفس الصناعيّ والغسيل الكلويّ وعيادات الطوارئ في قريته، وأيضاً التبرع بالدعم اللازم لتطوير مدرسته التي ترعرع فيها، عدا عن دعمه صندوق "تحيا مصر" المخصص لدعم الاقتصاد المصري بمبلغ 5 مليون جنيه.

ناهيك عن قيامه بتصوير ثلاث إعلانات مجانية مع صندوق مكافحة وعلاج الإدمان والتعاطي لتوعية الشباب تحت شعار "إنت أقوى من المخدرات". صلاح مثال للشاب المُجتهد المُلتزم دينيّاً، الصبور والمُثابر بالرغم من العقبات، وهذا الجانب المشرق يستحق أن يكون مثالاً يُحتذى به، فكم من "صلاح" بيننا كان المجتمع سببا في إجهاضه ولا أقصد الموهبة الكروية فقط، وإنّما العديد من الموهوبين ذوي المَلَكات الربّانية، تُقتل فيهم مواهبهم رَغماً عنهم، ولرُبّما لو كانت أسرة صلاح أسرة اعتيادية تملك المال لأُجبر على استكمال تعليمه الجامعي بحُجة أنّ الرياضة لا مُستقبل لها في أوطاننا العربية.

وهذه الرسالة هي الأعظم هُنا، احذروا أن تقتلوا موهبة منحكم الله إياها وحذارِ من التفريط فيها، وجهوا بوصلتكم نحو الشغف دوماً، هناك ستجدون ذواتكم، أبصروا طريقكم جيداً، خذوا نفساً عميقاً وصوبوا نحو المرمى، الهدف آتٍ لا محالة. تحلوا بالشجاعة وسددوا بكل ما أوتيتم من قوة، مرة أخرى.. الهدف قادم لا محالة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.