شعار قسم مدونات

الكتاب الأسود.. يتحاكم لا يحكم (2)

مدونات - السيسي- سيف عبد الفتاح
يعد هذا الجهد الذي اتخذ له عنوانا "الكتاب الأسود" والذي يوثق لسياسات السيسي وجملة قرارته ومخرجات نظامه الانقلابي جهدا مهما، والذي قام به برلمان الخارج، خاصة أن المنقلب يحاول في هذه الآونة التأهب لانتخابات رئاسية هزلية -في حقيقة الأمر ليست بانتخابات- حتى يُختار لفترة رئاسية ثانية، رغم كل تلك المآسي التي ارتكبها تحت عناوين كثيرة؛ فقد ارتكب من الأفعال ما يعد جرائم وما يصنف بعضها في أعلاها مثل "خيانة الأمانة"، وخيانة القسم، مرورا بما يعتبر مؤشرات على فساد كبير، يجتهد هو ومؤسساته في إخفاء أي قرائن ومؤشرات على هذا الوزر وارتكابه، وانتهاء بمشاهد الفشل التي غالبا ما تمثل احترافية الفشل في هذا النظام الذي يحاول أن يبيع الأوهام ويروج الأحلام.

بين قوائم الاتهام والتجريم، وجرائم الفاشية وانتهاك حقوق الإنسان، وقوائم الفساد وحماية الفاسدين، وقوائم الفشل التي تشير إلى افتقاد النظام إلى قدر مشروعية أفعاله، فإن هذا النظام الذي افتتح عمله الفاضح باغتصاب السلطة الشرعية، وقطع الطريق على مسار انتخابي وديمقراطي، واختطاف رئيس مدني منتخب غير معروف مكان احتجازه أو سجنه، كل تلك القوائم إنما تشكل في حقيقة الأمر "كتابا أسود"، تلازم هذه المنظومة الانقلابية بكل قبائحها وسوءاتها، التي يجب نشرها في ظل استراتيجية وسياسة لفضح النظام على رؤوس الأشهاد في كل مقام ومكان، وأمام كل هيئة ومؤسسة في الداخل والخارج، حتى يرفع النقاب ويكشف المستور من سياسات العسكر التي لا تجلب إلا خرابا للمجتمعات، وتخريبا لعمرانها وإنسانها، وجملة العلاقات الاجتماعية والمجتمعية التي يسهم المستبد والمستبدون وجوقته في تمزيق تلك الشبكات وتشرذمها بما ينال من قوة الوطن وتماسك الشعب ووحدة الجماعة والوطن.

إن إهدار الإنسانية وطمس الكرامة لهما عمليتان يقوم بهما النظام الانقلابي على نحو استباحي ممنهج، فينال من الإنسان وأمنه بتخويفه وترويعه وتفزيعه وتعبيده وتطويعه، وينال من حرمته وكيانه وبنيانه

رباعية الشعار: "العيش الكريم"، و"الكرامة الإنسانية"، و"الحرية الأساسية"، و"العدالة الاجتماعية ". وبالنظر لهذه الأهداف، فإنها مثلت بالنسبة للثورة المضادة تذكيرا لها بمطالبات شعبية وأشواق جماهيرية تتوق إلى تحقيق هذه الأهداف، فما كان من زبانية الثورة المضادة إلا استهداف هذه الأهداف في مقتل، وجعل هذه الأهداف نصب أعينها لاستهدافها بكل بجاحة ودناءة وحقارة.

فهذا العيش الكريم الذي استبدل بعمليات متتابعة لسياسات ممنهجة لتكريس حالة الإفقار المتعمد في بر مصر، يهدف إلى استراتيجية "تجويع" قامت عليها مؤسسات ووزارات تؤدي الخدمات، فإذا بها تتحول إلى أدوات جباية لئيمة تمتك عظام تلك الشعوب وتمتص دماءها لو كان فيها بقية من حياة، لا تقيم وزنا لهؤلاء المعدمين، إنها طريقة أخرى من طرائق الإعدام التي يوزعها النظام ضمن زيادة رقعة "المعدومين" في إطار سياسات جائرة برفع الدعم من دون أي تعويض يذكر للفئات الفقيرة التي ازدادت فقرا وإفقارا، وإذا تأملت لفظ "المعدوم" فهو على قرابة من "الإعدام"؛ الفعل الذي يتعلق بإزهاق الأرواح، ولكن على نحو بطيء وبنهج متعمد.

خط الفقر ومن هم تحته صار كل يوم يلتهم أعدادا جديدة من فئة "المعدومين"، المتدهور حالهم من جراء غول الغلاء وسعار الأسعار وهوان الجنيه وتغول الدولار.. كل هذه الأمور ليس أمامها إلا "الفقير المعدوم" المطحون الذي يزداد فقرا، فتتكالب عليه، وتزيد أحواله تفاقما، وحاجاته ازديادا. إن الحديث بالأرقام عن هذه الأمور تجده ضمن جداول ورسوم بيانية وأنفوجرافات (من أشكال معلوماتية) معبرة عن أسوء حال، وتدهور معنى "العيش"، أما انتماؤه إلى دائرة الوصف بالكريم فقد صار من مستحيلات هذا النظام الذي جعل من شعارات "مش قادر أديك" و"نجوع.. نجوع" من استغلال حال المعدومية التي صارت صفة لهؤلاء الذين في تدهور وسقوط مستمر في بئر الحرمان والإفقار.

أما معاني الكرامة الإنسانية المستهدفة من المنظومة في كتاب أسود لا يقدر معنى الإنسانية وحرمتها، فضلا عن إهداره للكرامة بكل صورها وكل مقتضياتها وشروطها. إن إهدار الإنسانية وطمس الكرامة لهما عمليتان يقوم بهما النظام الانقلابي على نحو استباحي ممنهج، فينال من الإنسان وأمنه بتخويفه وترويعه وتفزيعه وتعبيده وتطويعه، وينال من حرمته وكيانه وبنيانه، ناظرا إليه في دائرة العبء على نظام فاسد فاشي فاشل لا يملك من السياسات إلا إهانة الإنسان وممارسة الطغيان، والنيل من كل كيان، وتبديد كل أمان وعمران.

إن أرخص الأشياء في ظل ارتفاع الأسعار المريب والرهيب هو الإنسان ذاته الذي قلت قدرته وتآكلت طاقته وسلبت كرامته، بل وحتى تستباح نفسه وإنسانيته بالقتل، حتى صار الإعدام أحكاما وأفعالا استراتيجية تتبناها هذه المنظومة، لا تقيم وزنا لأحد ولا تضع لنفسها أي سقوف أو قيود أو حدود، عنوان أفعالها الاستباحة، ومداخل أقوالها وخطابها الإهانة والاستهانة. إن رؤية الإنسان المصري لنفسه سواء أكان مطاردا أو معتقلا، في ظل نظام يجعل التهمة هي الأساس والبراءة هي الاستثناء، إنما تعبر عن بؤس المواطن وافتقاده لكيانه ومعنى إنسانيته ومغزى كرامته.

ذلك أن افتقاد الكيان والكرامة الإنسانية إذا حدث وصار ذلك منهجا وسياسة فلا تتحدث عن "الحرية"، لا أساسية ولا مدنية ولا سياسية، الحرية فعل قيمي عزيز يتعلق بخلق الله للإنسان كريما في كيانه حرا في بنيانه وفي قناعاته وخياراته، في إرادته وقدراته، في مساره ومسيرته وتقرير مصيره، إنها القيمة التي تلف الإنسان فتخرجه من كل علاقة تمتهنه أو تهينه: "علاقة السيد والعبد"، و"علاقة المستبد والخاضع"، و"علاقة الطاغية والامتهان"، و"علاقة البطش والخوف والتخويف والترويع" و"علاقة المتحكم وعقلية القطيع"، و"علاقة سيادة الطاغية في فرقة وتفرقة شعبه"، علاقة المستبد حينما يجد تابعين ممن هم موضع استخفافه واستهانته ملوحا لهم في كل حين "أنا أو الفوضى".

من المهم أن تتعرف على ما أحدثه السيسي بنظامه الانقلابي، وصفحات كتابه السوداء في ملفات حقوق الإنسان والحريات والملفات السياسية والدستورية والتشريعية 
من المهم أن تتعرف على ما أحدثه السيسي بنظامه الانقلابي، وصفحات كتابه السوداء في ملفات حقوق الإنسان والحريات والملفات السياسية والدستورية والتشريعية 

يأتي بعد ذلك التبديد الذي يتعلق بالانقلاب في إطار منظومة العدالة، ذلك أن هذا النظام قد بدد كل ما يتعلق بمؤسسة القضاء ووظائفها في إقامة العدل وتحقيق الإنصاف، ومن المؤسف حقا أن تستبدل ذلك بسياسات الظلم ومظاهر الإجحاف، فضاعت في الحقيقة وظيفة القضاء وتورط معظم القضاة في اقرار حالة الظلم؛ إما بالإسهام المباشر في إصدار أحكام جائرة أو بشكل غير مباشر بالسكوت على كل ظلم يقوم به السيسي وزبانيته؛ فإذا تحدثت عن جهاز النيابة العامة، فحدث ولا حرج عن جهاز لا يقوم بأصل وظيفته بالتحقيق والتدقيق، ولكنه يقوم بتقديم الغطاء لكل ظلم وسلوك يتوسل كل حيلة من مسالك التلفيق، فصار مرفق العدالة يسير بسيرة الظلم ولا ينتصف لأي حق.

صار من يستحق أن يكون خلف القضبان وفي السجون خارجها يتنعم، ومن خلف القضبان يقبع في غياهب السجون هو المستحق للحرية والتكريم، أضف إلى هذا أن منظومة العدالة قد افتقدت أي روح تشريع يتعلق بإشاعة العدل وضمان تحقيقه، وصارت التشريعات تقنن للظلم والمظالم وتحرك كل المعاني التي تتعلق بتطبيق قوانين ظالمة وقواعد باطشة، حقق كل ذلك ضمن منظومة استبدادية فاشية، أما العدالة الموصوفة بالاجتماعية فحدث ولا حرج عن نظام لا يهدف إلى تحقيق العدل ويكرس كل مظاهر الظلم ويزداد الغني فيه غنى ويزداد الفقير فقرا، وصار هؤلاء الذين يقعون تحت خط الفقر يتزايدون بشكل يومي كعلامة على الظلم المستمر وسوء توزيع الموارد، وبدا هؤلاء الذين يتنعمون في عز مستبد لا يقيم وزنا ولا بالا لفقر الفقير ولا حتى موته وفقدان حياته. 

كل ذلك إنما يعني أن تلك التضمينات الأربع في شعارات الثورة أزهقت عن عمد ووئدت بقصد، وبدا الأمر في أسوء حال عما كان عليه في زمن المخلوع مبارك، وفي هذا المقام يمكننا أن نؤكد أن تلك المنظومة الانقلابية نقضت كل ما يتعلق بكيانية الإنسان وكرامته ورزقه ومعاشه وما يقيم أوده وصحته وعافيته، واستطاعت تلك المنظومة بذلك أن تترك الإنسان والمواطن كحطام لا يستطيع أن يبلغ معنى تكريمه وكرامته، ووقع الإنسان في منظومة استخفاف كبرى لذاته وفي كيانه وعلى امتداد عمرانه، لم لا والظلم مؤذن بخراب العمران كما يؤكد على ذلك ابن خلدون. 

من المهم أن تتعرف على ما أحدثه السيسي بنظامه الانقلابي، وصفحات كتابه السوداء في ملفات حقوق الإنسان والحريات والملفات السياسية والدستورية والتشريعية والملفات الخدمية والإنتاجية في الزراعة والصناعة، والملفات الاقتصادية من تعويم الجنيه وارتفاع سعر الدولار وتضخم الدين الداخلي والديون الخارجية، في السياحة والرياضة والثقافة، في الصحة والتعليم، في كل حال ومجال ومشروعاته القومية الفنكوشية التي لا تعبر إلا عن الزيف والتزوير في حق هذا الشعب، وما قام به بالنيل من هذا الوطن بالتفريط في أرضه وعرضه وكل المعاني الجوهرية التي تتعلق بأمنه وأمانه، وفرط في موارد هذا البلد من غاز ومياه وأراض، وكيف حنث بقسمه، وخان بانقلابه وتفريطه، واعتباره أمن الكيان الصهيوني جزءا لا يتجزأ من أمن مصر بتزييفه لحقيقة هذا الأمن ومقتضياته؟!! ومن المهم وأي فرد أو مواطن من شعب مصر يواجه تخريب هذا النظام المتعمد وظلمه الغاشم، وسياساته الفاشية والفاسدة. ألا إن هذا الوطن يستغيث ببنيه الشرفاء الكرماء، إنقاذ هذا الوطن صار واجبا على أهله وشعبه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.