شعار قسم مدونات

لماذا زمن اليقظة؟

مدونات - رجل يقرأ
على مدى سنوات طويلة، كان هذا السؤال يراودني، كيف يُعاد تنظيم العقل المسلم المعاصر، من قِبل مكتبة التجديد للفكر الإسلامي، وما الذي يستطيع أن يحققه هذا القلم المتواضع، في ظل فراغ كبير، أوجدته حالة التقصير في ميادين القلم والفكر، أمام احتياج ثقافي ملح، لمئات الآلاف بل ملايين الشباب العربي، الذين اقتنعوا بأن الإسلام رسالة حياة وصحوة إيمان طبيعية للشرق، وعمران للبشرية، لكن تاهوا في التفصيل واختلفت عليهم الاجتهادات، وفوجئوا بقطّاع طرق متعددي التوجهات، كان الاستبداد أبرز محرك لهم.

ولم يتمكن المستبدون، أو قطاع الطرق المنحرفون، من تحقيق تلك الاختراقات، دون ذلك الرصيد الكبير من عجز الذات وضحالة البنية الثقافية العميقة، التي يحتاجها المسلم المعاصر، في مثل دورات الزمن الصعبة، والتي تأتي اليوم، في أوج محن الشرق المسلم، فتحديات الانهيار ليست سياسية، ولا جغرافية وحسب، ولكنها فكرية، والفكر هو أول قاعدة لصناعة الأمم، ومعقل انتصارها، وحين يغيب عن العقل أو يهزم، تهزم الأمة في كل المسارات. وحتى البنية العسكرية المطلوبة لحماية الوجود والحدود، في ظل معادلة المدافعة البشرية، تسقط حين تحوّل ضد حرية الإنسان وكرامته، وحين تكون مضرب قتل لا مدافعة ظلم، وسندا للظالمين لا عونا للمستضعفين المضطهدين.

 

الوضع الذي آلت إليه بلدان الأمة من تخلف عزز قدرات الاستعمار الغربي وتقسيم الشرق، وخاصة تأثير الحكم السلطاني الذي لا علاقة له بالخلافة العادلة

اليوم صدر كتاب "زمن اليقظة"، لن أسرد ما حررته من فصول، لكنني سأركز على بنية أساسية فيه، فبالنسبة لي، الكتاب كان منتصف سلم الدرج المفقود، كيف يواصل الشباب العربي فهم معادلة الفكر الإسلامي في شقين. الأوّل أن ما وصل إليه، عبر وسيطة الصحوة الإسلامية، هي صحوة لابد لها من تفصيل مهم، فالصحوة التي استيقظ عليها العالم الإسلامي، من روح الإيمان وجدل الإنسان، والحاجة إلى تكامله في النفس الشرقية، التي تعرضت لمواسم انحطاط واستبداد، قبل سقوط الدولة العثمانية، حيث كانت لمفاهيم الدولة السلطانية منذ العهد الأموي تأثيرات سلبية على فكر الإنسان الشرقي، ودُمجت كل الصراعات بما فيها الصراعات الظالمة، التي نص الإسلام على تجريمها ضمن هذا التاريخ.

 
فلم يَفرز هذا الشاب أو القارئ، الذي صدم في الزمن الجديد، من بعض منقولات التراث، حين استذكر أو قرأ إلى اليوم، أن تلك الانحرافات هي جزء من هويته التي يُدعى لها، ولم تكن هوية ولم تكن حضارة أبدا، بل كانت حفنة من المعاصي التي نهى الله ورسوله عنها، فصيغت للتاريخ الجديد على أنها المجد الإسلامي المرتضى، والذي تتعلق النفس بعودته.
 

هنا استيقظ التاريخ الفكري الجديد في دعوات تبين لنا عبر بعض الحفريات التاريخية أنها مستمرة، في قرون خلت من علماء مصلحين، تعددت منهجيات قراءتهم وعملوا على دفع هذه الأباطيل، قد تجد بعضهم لدى القرون الأولى، في روح النأي عن تقديس الحكم، وتعظيم حرية الإنسان، وقد تتوقف في كل مراحل التاريخ، لتجد كيف أن حركة التنوير استمرت تهدي لمقاصد الشريعة.

لكن الوضع الذي آلت إليه بلدان الأمة من تخلف عزز قدرات الاستعمار الغربي وتقسيم الشرق، وخاصة تأثير الحكم السلطاني، الذي لا علاقة له بالخلافة العادلة، وتعزيز نظرية الفرد الحاكم، أثرت على البنية التعليمية والثقافية والإصلاحية، وعززت التخلف والنفاق العلمي، الذي رُبط بمقاعد السلاطين. 

   undefined

 

أصبحت حركة الصحوة الإيمانية الأولى تنظر إلى واقع استباحتها، وحروب ومجازر تاريخية، هي حتى اليوم من الروس إلى الإيطاليين إلى الفرنسيين حتى الانجليز والأميركيين، عمليات إبادة جماعية قامت على أسس دينية، أو مصلحية نفعية عنصرية ضد الشرق ورسالته.
 
لكن هذه الصحوة، التي بعثتها دعوات الإصلاح القديمة الموجهة للدولة العثمانية، ثم تواصلت مع شاعرية إقبال الفلسفية، والعروة الوثقى للسيد جمال الدين، وأسئلة الندويين في الهند، وفلسفة بيغوفتش ومالك بن نبي، وصرخات الغزالي المعاصر فيلسوف الفقهاء، وحركّت حسن البنا ومصطفى السباعي، في اجتهادات الفكرة الأولى.
 
بل تجد نبضها لدى آخر أسفار طه حسين عميد الأدب العربي، وهي خلاصة منشورة مؤخرا عن مراجعات طه حسين، في كتاب للدكتور محمد عمارة، وهي أيضا لدى عبقريات العقاد، ومحمود تيمور الرائد المسرحي، وشخصيات أخرى من عصر النهضة الأدبية الحديثة، حينما وجدوا أن معادلة الشرق المؤمن ليست الأزمة بل هي الحل، وإنما المصيبة معضلة العقل المسلم الذي لم يستجب لدعوة الله عز وجل في تفعيل عبادة التفكير العقلي والتحرير الفكري.

 

من يصدق أن طه حسين يجتمع مع حسن البنا؟

القضية ليست في قوالب التيارات التي حُبس فيها عقل الشباب، فما كان محسوبا على هذا التيار كان عظيما مقدسا، وما كان محسوبا على ذلك التيار، فهو شيطان رجيم، حتى لو سجد بفلسفته، في محراب الرحمن الرحيم. إننا نقصد أن هناك خلاصة يجتمع عليها هؤلاء أن الحداثة والفنون والنهضة والعمران، وأولها الحرية والعدالة الاجتماعية، لا تتعارض مع الروح المؤمنة المطمئنة في الشرق، بل هي مصدر تفوقه على الغرب.

 

ماذا؟ تفوقه على الغرب!

نعم، تفوقه على الغرب، وإن كان الشرق مسربلا في حروبه وصراعاته، هذ الجواب ليس نكاية أو صراعا، ولكن تقعيدا علميا لسر الحياة الناجحة، يد تعمر وروح مطمئنة، هذي هي الحياة، وبتفسير عقلي يتَطابق مع الدلالة الوجودية للغيب، وحيث رحلة الإنسان إلى البرزخ أو الخلود، ومع ذلك لا يكف عن عمران الأرض لأجل البشرية والذرية القادمة، والمعيار العدالة القانونية مهما كان الانتماء الديني. 
 

حين هجمت أسئلة العالم الجديد، مع الظلم الحالك على جسد الشرق، وطغيان التنظير الديني لكل قُطر وجماعة، فتاهت أودية الناس، وصُنع لهم دين باسم كل بلد، يُبرر به معاركه وحروبه
حين هجمت أسئلة العالم الجديد، مع الظلم الحالك على جسد الشرق، وطغيان التنظير الديني لكل قُطر وجماعة، فتاهت أودية الناس، وصُنع لهم دين باسم كل بلد، يُبرر به معاركه وحروبه
 

هذه الصحوة، ليست الصحوة التي أممها النفط الخليجي، ورسمت بعض خطوطها وزارات الداخلية فيها، وليس ذلك أن الصحوة الخليجية كلها شر، كلا.. ليس هذا هو المقصد، ولا التهوين من حركة الرعاية التربوية، التي يحتاجها كل بيت مسلم، حين تكون مُسيّجة بالخُلق الحقيقي، والاحترام البالغ للرأي العام لا الوصاية عليه، إنما حركة الصحوة الإيمانية الكبرى كانت تسير في اتجاه إجابات التساؤل العقلي والديني الكبير.

 

لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟

ومشكلة الصحوة الخليجية أنها قطعت هذا الطريق ورهنت خطابها في حروب مذهبية وإقليمية واجتماعية، تمزّق الناس باسم صحيح الدين لمذهبها، نعم لم يتورط الجميع، لكن كانوا يتكئون على عصاتها، التي سقاها البترودولار، هنا توسعت الفجوة، وهنا الشق الثاني.

 

شعرت أن فكر النهضة لا بد من أن يُستبق بمرحلة ينقلها من نواقص وأخطاء الصحوة، وبذلك رست السفينة لعلها تؤذن بفضل الله بإطلاق زمن اليقظة

حين هجمت أسئلة العالم الجديد، مع الظلم الحالك على جسد الشرق، وطغيان التنظير الديني لكل قُطر وجماعة، بما فيه من يرفع معركة الدفاع الإسلامي، تاهت أودية الناس، وصُنع لهم دين باسم كل بلد، يُبرر به معاركه وحروبه، وتحالفه مع قواعد الغرب أو سياساته.
 

وجاء الغرب الجديد لا ليطرح أسئلة ولكن ليفرض منظومة كاملة من الأفكار والأخلاق دون أن يقبل أن يقتبس الشرق من تجربته الإدارية والسياسية، فيخلق استقلاله، لأنه في هذه الحالة سيكون ندا، وهي الحرب التي أطلقها الغرب منذ القرون الوسطى، لضمان أن يبقى الشرق أسيرا لا شريكا.

أمام هذا الكم الهائل من الأحداث والأفكار، وأسئلة الحرية والشك والإيمان، واضطراب العقل وخفقان القلب انفجر السؤال: من أنا الشاب المسلم؟ أكنت منخرطا في جماعة دينية، أو كنتُ مستقلا، أو كنت علمانيا، أو هبطت علي أسئلة الوجود والشك، كيف أفهم هذا الدين؟ فكيف نفكر في جوابه، قبل أن يجيب أحدهم باسم الإسلام، وما أكثرهم ممن جهله أو ممن خاصمه، هل ممكن أن يكون الإسلام راعيا للحرية، للدستور، للكرامة الفردية، للحوار والقيم الإنسانية، لفلسفته الذاتية التي لا تقصي الروح.

هنا وضعت خارطة قلمي، لكي أنظم الأسئلة لعلها تبعث روافد اجتهادية للمعرفة، وقد جمعت كل طاقتي لاستعادة فكرة الصحوة الإيمانية، لكن في مسار النهضة الإنسانية، فشعرت أن فكر النهضة لا بد من أن يُستبق بمرحلة ينقلها من نواقص وأخطاء الصحوة، وبذلك رست السفينة لعلها تؤذن بفضل الله بإطلاق زمن اليقظة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.